مفارقات في ذكرى نوفمبر!

حتى اليوم الخميس، تكون 50 سنة مرت منذ رحيل المستعمر البريطاني عن عدن، بعد ثورة شعبية استمرت أربعة أعوام سقط فيها مئات الشهداء.


لم تكن بريطانيا العظمي التي احتلت الجنوب في 19 مارس 1839م، لترحل لولا المواجهة العنيفة والرفض الشعبي الواسع لوجودها، وفشلها في وأد الثورة، التي انطلقت في أكتوبر 63م في ردفان، وتمدّدت حتى شملت كل مناطق الجنوب، وأسقطتها واحدة الى الأخرى.

 

في ثورة أكتوبر، قدّم الجنوب قوافل طويلة من الشهداء، وطابور من الجرحى. وصف طويل من المناضلين، ربما لم يحصل أغلبهم على النزر اليسير من التكريم الذي يستحقونه.

 

في ردفان مهد الثورة وحدها دمّرت منازل ودور على رؤوس ساكنيها، وقتل شيوخ ونساء وأطفال، وفِي عاصمتها الحبيلين، علق المحتل البريطاني، اثنين أشقاء اتهمهما باستهداف معسكراته، بأجنحة طائرة هيلكوبتر وطار بهما فوق الجبال ومر بهما على القرى حتى فقدا عقليهما.


بعد أن انتصرت الثورة ورحل المستعمر، لم يقفز المناضلون الأحرار ولا ذوو الشهداء، إلى واجهة المشهد ولَم يطالبوا بتكريم أو تعويض أو حتى كلمة شكر.


كان الفدائيون الحقيقيون يخجلون أن سمعوا من يثني على أدوارهم ويعتبرون ماقدموه واجبا عليهم على العكس تماماً ممانراه ونسمعه من مناضلي الْيَوْمَ.

 

فحين نقرأ في سفر ثورة أكتوبر تكاد تتملكنا الدهشة في التغيير الكلي في مفهوم النضال وغاياته وأهدافه بين الأمس واليوم.

 

تقول الوقائع إنه عندما فقد الشابان الردفانيان عقليهما بسبب تعليقها بطائرة هيليكوبتر، لم يقرع ذووهما باب أي مسؤول لتذكيره بشيء مستحق لمناضلَين تعرّضا لعملية تعذيب لم يسبق أن تعرّض لمثلها أحد قبلهما، فيما تقول الوقائع أيضاً إن ذوي بعض أقارب الضحايا في عملية نهب السلاح من جبل حديد بعدن، يعتقدون أن التاريخ النضالي لأقاربهم في تلك الملحمة لم يحظ َبالتكريم الكافي


ويعتقد مناضلون آخرون أنهم قضوا سنوات وهم على أسرّتهم يناضلون على الشبكة «فيسبوك» ويجمعون اللايكات الكثيرة. ومع ذلك، فإن نضالهم ذلك لا يحظى بالاهتمام والتقدير والمكافأة اللائقة.

 

ناضل رجال أكتوبر واستشهدوا وجرحوا، ويخجلون مع ذلك عن ذكر مآثرهم، واكتفوا بالفتات من المعاشات، بل أن بعضهم ذاق ذُل الفقر ولَم يشكو أو يستنجد بأحد، وجاء مناضلو الْيَوْمَ من «المفسبكين» أو شلة «صورني وأنا في الجبهة» ليتم تعيينهم وزراء ومسؤولين، قبل أن تنتهي الحرب، ولعل أغرب هذه الحالات تعيين قائد لواء في الثانية والعشرين من عمره وهو مقيم في الرياض، وقبل أن يباشر عمله باع ما يقارب من نصف ممتلكات معسكره الوهمي.

 

وأغرب حالات النضال أن تصنّف مناضلاً مدافعاً عن قضية أنت أصلاً لا تؤمن بها، ومع ذلك فأنت تعتقد أنك تستطيع بمنشور على «فيسبوك» أن تقنع شعبك أنك مناضل صلب تستحق أن تكون قائداً أو زعيماً.

 

خمسون عاماً مرت منذ استقلال الجنوب جرت خلالها مياه كثيرة في النهر الجنوبي، وتبدلت أنظمة ومفاهيم وقيم عديدة أكثرها سوءًا أن يأتي خصوم الاستقلال في عام ٦٧م ليقدموا أنفسهم الْيَوْمَ باعتبارهم أبرز المدافعين عنه والممثلين لتطلعات مناضليه.
لا أظن اننا الْيَوْمَ نحتاج الى شيء أكثر من حاجتنا لاستعادة تلك القيَم الرجولية العظيمة للمناضلين الأوائل ليتعلم منها «وطايط» الْيَوْمَ أن النضال تضحية وإيثار وجوع ومعاناة، وليس فيد وإثراء ومزايدات ومعارك «دونكيشوتية» مع أزرار الكيبورد من على السرير الوثير