استقلال الجنوب في قصائد محمد سعيد جرادة

الاثنين 18 ديسمبر 2017 14:34:55
 استقلال الجنوب في قصائد محمد سعيد جرادة
المشهد العربي/ نوافذ

كتب / د. عبده يحيى الدباني


يُعدّ الجرادة شاعر المناسبات والمحطات الوطنية الكبرى في الجنوب بامتياز. فقد مثل شعره حضوراً لافتاً خلال الأحداث الوطنية التي عاصرها. وقد تواءم ذلك مع طبيعته الشعرية، فواكب الأحداث وتفاعل معها وانفعل بها وترجم كل ذلك شعراً.
ففي قصيدة له بعنوان «30 نوفمبر»، تناول يوم الاستقلال الوطني للجنوب من كل زواياه، ولم ينفرد بجزئية منه، وذلك حسب منهجه الشعري في النظر إلى القضايا وتصويرها، فلم يكن حداثياً ولم يكن تقليدياً، لكنه جمع بين الأمرين، إذ أخذ من الحديث موضوعاته ومضامينه واهتماماته، وأخذ من القديم تقاليده الفنية الرصينة لغة وصوراً وإيقاعاً ومنهج رؤية، وهذا ما يسمى في النقد بـ«الكلاسيكية الجديدة». ففي مطلع هذه القصيدة النوفمبرية، ينوه بدور الشعر في الحياة، لاسيما الحياة العربية، إذ يقول:
غرد بشعرك يا شادي الجماهير ففي قوافيك رنت نفخة الصور
بعثتها عن أماني الشعب ناطقة والشعب أروع من يوحى بتعبير
فمن المطلع نرى أن القصيدة احتفالية احتفائية صوتاً ومعنى وعاطفة، حين كان لمثل هذا الشعر تأثير السحر في جمهور ذلك الجيل الرائد، قبل أن تطغى الأمية اللغوية والشعرية على الناس.
أما في المقطع الثاني، فيصور مشهد الاستقلال نفسه قائلاً:
اليوم تشرق فيك الشمس يا وطني
سنية الوجه غراء الأسارير
شمس لها مقل حمراء من شفق
كعين صب حليف السهد مهجور
لعلها قطرات من دماء فتى
ضحى بروح لوجه الله منذور
أو خد حسناء في ساح الجهاد قضت
وللقذائف إعوال الأعاصير
ثم يلتفت إلى الماضي القريب، واصفاً تلك الحقبة الدامسة التي عاشها الشعب في الجنوب في ظل الاستعمار، إذ يقول:
شمسان حدث عن الماضي فأنت له
راوٍ له صدق إسناد وتقرير
بالأمس كان هنا المستعمرون لهم
نظام حكم صفيق الوجه شرير
جاؤوا قراصنة في البحر تدفعهم
أطماع شر نظام امبراطوري
قرن ونيف أظلتنا حكومتهم
في عهد خسف وإذلال وتسخير
أرض الجنوب جميعاً أصبحت لغماً
لم يهد سمع العدا إنذار تحذير
وفي نهاية هذه القصيدة العصماء الوطنية، يوجه الشاعر خطابه إلى الجمهور، صانع الثورة والاستقلال والجمهورية الوليدة. كما يصور عودة الدخيل على أعقابه إلى بلاده مهزوماً مدحوراً، ودوران الدائرة على عملائه يوم لا ينفع الندم، على الرغم من أن رد فعل الثورة إزاء أولئك العملاء لم يكن عنيفاً؛ ذلك أن الموقف المعتدل العقلاني كان هو المطلوب، بل هو المطلوب دائماً وأبداً.
من هذه الأبيات ما يأتي:
يا إخوة الثورة الحمراء عيدكم
هذا أحق بإكبار وتقدير
رفت بأعلام جمهورية ولدت
ميلاد فجر تجلى أثر ديجور
والشعب أيد كل الشعب غايتها
تأييد حب وإعزاز وتقدير
والتف من كل صوب حول قادتها
في موكب ظافر الأعلام منصور
عاد الدخيل على الأعقاب منهزماً
يجر أذيال كابي الحظ مدحور
تسلل اللص من دار الحماة لها
أعمى البصيرة من إشراقة النور
زال الدخيل وزالت كل شيعته
كل السلاطين بل كل المآمير
وكل لص وخوان ومنتفع
ومستغل وجاسوس ومأجور
حفرتم أنتم القبر الرهيب له
أكرم وأخبث بحفار ومقبور
جلوتموه بحرب لا هدوء لها
والرجس لا ينتهي إلا بتطهير
هذا هو الجرادة ينساب كالنهر في شعره جمالاً ووطنية وتاريخاً وأصالة. فعلى الرغم من جهارة الصوت وعلو النبرة وضغط المناسبة، فقد حفلت القصيدة بالصور الشعرية التي تماهت مع المقام والنظام، ذلك النظام الشعري الذي عرف الجرادة به، بحيث صار متميزاً كتميز قسمات وجه الشاعر عن غيره.
وقد مضى الجرادة في القصيدة نفسها إلى نعت حكام الاتحاد بالفساد الأخلاقي والغفلة عن الجماهير، إلى أن قال:
يحيون للجيش عرضاً وهو يكرههم
كراهة المتنبي وجه كافور
ويطلبون إليه حفظ سلطتهم
والجيش يصدر فيهم حكم تكفير
وفي هذه اللفتة منه إلى جيش حكومة الاتحاد إنصاف لهذا الجيش الذي ظلمه الساسة. لقد كان بوجه عام جيشاً وطنياً وقف إلى جانب الثورة في أصعب مراحلها، وكان الكثير من الفدائيين من بين صفوف هذا الجيش الذي أصبح فيما بعد جيش الجمهورية الجنوبية الوليدة، رغم ما حدث بعد يونيو 1969م من سياسة مؤسفة إزاء هذا الجيش وكوادره الوطنية المحترفة.
ثم يعود الشاعر إلى وصف الفدائيين من أبناء الشعب الذين هبوا لتطهيره من رجس الاستعمار، إذ يقول:
شبيبة وكهول كلهم أسد
يكشر الناب في عزم وتشمير
من كل محتضن الرشاش تحسبه
من جسمه أصل عضو غير مبتور
هم حولوا كل شبر معقلاً أشبا
يصدر الموت منه أي تصدير
ويعرج الشاعر على ذكر حكومة الاتحاد التي صنعها الاستعمار نفسه، ويصب عليها جام غضبه الذي هو غضب الشعب نفسه من هذه الحكومة العميلة، قائلاً:
حكومة العملاء الوافدين إلى
مطار لندن طابوراً لطابور
حكومة رفع المحتل رايتها
ومن ثرى (التيمس) وافاها بدستور
حكامها بين موصوم بلا خلق
ورب جاف ومعتوه ومخمور
أو جاهل تضع الإبهام بصمته
عهداً من الرق أو صكاً من النير
حقائق صدمتنا من سلوكهم
تكاد تدخل في باب الأساطير
وربما قسى الشاعر على هؤلاء الحكام الذين كانوا نتاج المرحلة الاستعمارية البائسة. هذه القسوة ربما يبررها الشعر نفسه والمرحلة الثورية العاصفة التي تخللتها شطحات ومزايدات مؤسفة،
ولكننا حين نرى عملاء اليوم، وما يصنعون بوطنهم الجنوب، نغفر للشاعر هذه القسوة، ونفتقد إلى شيء من ذلك الحزم الذي جوبهوا به.