اليمن.. الاحتباس الحضرمي

لم تعرف حضرموت شكلا من الاضطرابات المجتمعية كما عرفته مؤخرا نتيجة تردي الخدمات الأساسية من كهرباء وماء وتعليم وصحة. حالة الاحتقان الشعبي تفجرت شعبيا في ظاهرة غير مألوفة في المجتمع الحضرمي الذي عُرف عنه التحلي بالصبر والانضباط العالي وعدم انسياقه إلى منزلقات تهدد الأمن العام بهذا الشكل الذي خرجت فيه مجاميع الشباب الغـاضب لتعتدي على الممتلكات العامة وتتسبب في تقطعات للطرق عبر إحـراق إطارات السيارات في ظاهرة مستحدثة على الحضارمة، وإن كانت مسبباتها موضوعية بشكل كبير.

اجتاز الساحل الحضرمي في أبريل 2016 واحدة من أكثر المـراحل خطـورة على الإطـلاق في التاريخ الحضرمي، فحضرموت التي اختطفت في أبريل 2015 عندما سيطر عليها تنظيم القاعدة واستطاع فرض قوته على الشريط الساحلي بالقوة، وعمل على إخضاع المجتمع لأفكاره المتطرفة ومنهجه الشديد في التطبيق مما وضع هذا المجتمع في أزمة غير مسبوقة.

وخلال فترة ذلك العام شهدت حضرمـوت انكفاء خطيرا كشف حقيقة أخرى، وهي أن الشخصية الحضرمية تعاني من خلل في التعاطي مع مثل هذه الأزمات الخاطفة، ومع ذلك فإن الفارق بين المجتمع الحضرمي والمجتمعات المماثلة التي خضعت لهذه التجارب في سوريا والعراق عندما سيطر تنظيم داعش الإرهابي على أجزاء من هذه البلدان، أن المجتمع الحضرمي تعاطى بحالة السكون وعدم التأثر المباشر مع الفكر المتطرف الغازي.

بظهور قوات النخبة الحضرمية التي أوكلت إليها عملية التحرير، بعد أن أشرفت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة على تدريبها وتأهيلها، تغيرت الكثير من المعطيات فقد عادت الثقة الذاتية وعززها انخراط الآلاف من الحضارمة مع القوات الجنوبية التي عملت على تحرير المحافظات اليمنية الجنوبية، وانتقلت في إطار عمليات عاصفة الحزم للقتال في محافظات صعدة والحديدة. هذه القوة أمدت الشعب الحضرمي بكثير من الإيجابية التي انعكست على جوانب واسعة خاصة في الساحل الحضرمي.

دخلت حضرموت في مرحلة مختلفة فقد وجدت نفسها محافظة معدمة من الأرصدة المالية برغم أنها المحافظة التي تمنح الجمهورية اليمنية موازنتها الاقتصادية على مدار عقدين. فالذي حدث بعد التحرير أن الحكومة دخلت في مماطلة مع السلطة المحلية سواء إبان فترة المحافظ أحمد بن بريك أو خلفه فرج البحسني، ففيما التزمت السلطة المحلية بكافة الإجراءات الإدارية والفنية لتصدير شحنات النفط المصدرة من حقول المسيلة التي بدأت بعد شهر واحد من التحرير بتصدير 3 ملايين برميل كانت المخزون المتوفر في ميناء الضبة النفطي وانتظرت السلطة المحلية توريد مستحقاتها المالية من الإيرادات التي تم الاتفاق حولها مع الحكومة الشرعية على حصة 20 بالمئة للمحافظة ونسبة 30 بالمئة لتشغيل شركة بترومسيلة و50 بالمئة للحكومة الشرعية، إلا أن المماطلة في تسديد مستحقات السلطة المحلية أوقعت المحافظة في إشكالية تعثر كافة الخدمات الأساسية، وظلت حضرموت تعيش على المساعدات التي توفرها السعودية والإمارات.

الموارد الشحيحة أدخلت السلطة المحلية في مشكلات تفاقمت بشكل متزايد، فقطاعات الكهرباء والمياه والصحة والتعليم والنقل والنظافة شكلت ضغطا هائلا، وشهدت حضرموت تراجعا تنمويا مخيفا أثر على مختلف جوانب الحياة الاجتماعية سلبيا، وفي ظل ظروف استثنائية بعودة مئات الآلاف من المغتربين في هجرة معاكسة ازدادت الأحوال المعيشية سوءا، وبات الاحتباس الحضرمي قابلا للانفجار المجتمعي غير المسبوق في تاريخ حضرموت على الأقل منذ مجاعة حضرموت 1941.

معالجة هذه الأزمة تبدأ عبر تفعيل منظمات المجتمع المدني والنقابات التي عليها أن تبدأ حملات اعتصامات تطالب الحكومة بتسديد التزاماتها المالية للسلطة المحلية. هذا الدور المهمل للمنظمات المدنية والنقابات يجب تفعيله، بحيث يكون هناك انضباط في التعبير عن حاجيات الأهالي المستحقة، كما أن على السلطة المحلية الاستعانة بعشرات الآلاف من الكوادر الشابة المؤهلة، بدلا من الكادر المترهل الغارق في فساد الأحزاب والموالي لأحزاب تراهن على اصطناع الأزمات المجتمعية لممارسة ابتزاز سياسي، كما ينتهج ذلك حاليا حزب التجمع اليمني للإصلاح المسيطر على الحكومة الشرعية والذي يبحث عن خلق هذه الأزمات ليحقق مكتسبات سياسية.

تمتاز حضرموت عن غيرها من المحافظات أن برامج التعليم التي قادها المهجر الحضرمي منذ التسعينات الميلادية من القرن الماضي أفرزت أكبر قاعدة تعليمية جامعية على مستوى المحافظات اليمنية، وكانت واحدة من منهجيات تأهيل هذه الكوادر إبعادهم عن التحزب السياسي وتجنيبهم الأدلجة ليكون الكادر الحضرمي مؤهلا لخدمة مجتمعه دون اعتبارات سياسية أو غيرها. هذا المخزون البشري يجب البدء في إحلاله في الوظائف العامة كخطوة حقيقية لتطهير السلطة المحلية عبر كل إداراتها المختلفة من الفساد الذي نخر في حضرموت منذ هزيمة الجنوب في صيف 1994، وتعميم ثقافة اجتماعية وسلوكية لا تتلاءم والمجتمع الحضرمي الذي عُرف وسيبقى مجتمعا عفيفا قادرا على العطاء وعلى إدارة مؤسساته وإفراز القيادات الكبيرة.

فلقد أنجبت حضرموت رواد الحركة الوطنية والاقتصادية بداية من شيخان الحبشي وعلي سالم البيض وحيدر أبوبكر العطاس وفرج بن غانم وخالد بحاح وغيرهم من الشخصيات القيادية، التي تؤكد أن هذا المجتمع قادر على الإمساك بزمام المبادرة وإدارة بلاده بكفاءة عالية.