اسبحي يا غيوم!

مرتفعات ومدرجات في أعالي القمم ومداخل الشعاب، وأكف تتضرع إلى السماء التي تجود غيومها السابحة بالمطر، فبعث الحياة في أرجاء تلك الأمكنة التي كانت قبل حين عامرة بالحياة.. هكذا عرفت قرى أريافنا على مدى عقود، بل منذ دهور، موطناً للحياة والنماء، كان مردود الأرض يكفي تلك الأفواه ويملأ الخير أكف وأيدي تتلقف عطاء مزن السحاب بمحبة وشغف.. «وينزّل من السماء ماءً مباركا». هكذا خاض سكان الأرياف صراعهم مع الطبيعة، واستطاعوا تأمين سبل عيشهم لدهور مضت.

جبال ودروب وعرة كان لا يصل إليها الإنسان إلا مشياً على الأقدام.. طرقات تهتدي إليها بصعوبة بالغة ربما عبر تتبع آثار الأقدام بما تركت عبر السنين من آثار تدل على أنك تمضي في حلزونيات أقحوانية هي سبيلك الوحيد للوصول إلى تلك القرى المعلقة في أعالي الجبال التي تبدو ليلاً كنيازك سماوية.

هنا في تلك الأنحاء كانت تُزرع الحبوب بأنواعها، وكان الأهالي يعتمدون في كل احتياجاتهم على مردود تلك المدرجات التي تتلقف حيناً هطول الأمطار، فتمضي مجدداً في رسم لوحات خضراء في طبيعة تجود بالثمار، وقلّما كانت تشكو تلك التجمعات السكانية من شحة سقوط المطر.

ربما شكلت حالة انقطاعي عن تلك القرى لسنوات أو لعقود خلت، إلا من بعض الزيارات الخاطفة، عدم معرفة ما حلّ بتلك الديار التي كانت عامرة بالحياة من تحول وضمور وحالة نزوح مؤلمة إلى تجمعات سكانية مجاورة خالية من أي أنشطة حياتية للسكان. تحوّل دفع الكثير ممن جبلوا على حياة الريف والطبيعة وممن تعدت أعمارهم الخمسين عاماً ثمنه حياتهم في تجمعات سكانية هامدة من الحركة والنشاط.. الحال الذي أصابهم بعديد أمراض جراء هذا التحول المفاجئ، وإن بات بعضهم يتعهد تلك القرى والمدرجات إلا أن الحال لم يعد يشكل إحياء لرقعتها الزراعية التي هي في طريقها للتصحر والاندثار.

هكذا بدت الغيوم تسبح في ذلك المساء على شعاب ومرتفعات هجرها سكانها، وبيوت نسيج العنكبوت خيوطه على مداخل عتباتها، لا بل إن كل شيء يبدو هنا متحولا بصورة صارخة. علاقات اجتماعية متبدلة.. واقع حياتي اقتصادي هو الأسوأ منذ أن عرفت هذه النواحي وجودها.

ما ذهبت إليه سلفاً لا يعبر عن حالة مفردة بعينها عن طبيعة التبدلات المؤسفة في وضع الكثير من مناطق ريفنا، وإن كانت مسقط رأسي في «حالمين» هي النموذج الذي أوحى إليّ ما سلف من حديث، بعد أن شاهدت قراها وديارها ومدرجاتها وقد تلاشت الحياة من أنحائها لصالح تجمعات سكانية جديدة في مدينة «حبيل الريدة» التي هي في طريقها للتشكل كواحدة من المدن التي أتت على حسنات تلك المرتفعات التي تسبح الغيوم في فضاء ديارها وضياعها المهجورة.
والحال لا يختلف في قرى الريف المماثلة التي ينزح سكانها إلى تجمعات مدنية تفتقر هي الأخرى إلى كل ما يرتبط بأنشطة سكانية، ناهيك عن وضع الخدمات وافتقار تلك المدن للتخطيط، إلى جانب استيطان الأوبئة جراء وسائل الصرف البدائية.​