عالما ما بعد الحرب الأولى

احتفل العالم بمرور مئة عام على انتهاء الحرب العالمية الأولى. تُوّجَ الاحتفال بقمة في باريس بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين الباحث الدائم عن مجد ضائع لروسيا، هو ذلك المجد الذي انتهى مع نهاية الاتحاد السوفياتي.

أسست الطريقة التي انتهت بها تلك الحرب، في الحادي عشر من تشرين الثاني- نوفمبر 1918، للحرب العالمية الثانية، ذلك أن ألمانيا شعرت بأنّ الشروط التي فرضت عليها وقتذاك في فرساي، قرب باريس، كانت مُذلّة. كانت تلك الشروط مُذلّة إلى حد سهّل على هتلر بأفكاره النازية الوصول إلى السلطة. انتقل هتلر، وكان شخصا عنصريا، بعد وصوله إلى السلطة عبر صندوق الاقتراع إلى الإعداد للحرب العالمية الثانية. بدورها، انتهت الحرب العالمية الثانية بهزيمة ساحقة لألمانيا. عرفت ألمانيا كيف تخرج أخيرا من تلك الهزيمة عندما انصرفت إلى إعادة بناء نفسها اقتصاديا تمهيدا لاستعادة وحدتها.

من رحم الحرب العالمية الثانية، ولدت الحرب الباردة. انتهت الحرب الباردة بدورها في اليوم الذي سقط فيه جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1989. كان سقوط جدار برلين مقدّمة لإعادة توحيد ألمانيا بحدود ما بعد الحرب العالمية الثانية. لكنه كان أيضا الخطوة الأولى على طريق انهيار الاتحاد السوفياتي واستعادة دول أوروبا الشرقية استقلالها الواحدة تلو الأخرى بهدوء. كانت يوغوسلافيا الاستثناء الأوروبي الوحيد. ما لبثت الدولة التي صنعها جوزيف بروز تيتو أن تحولت إلى دول عدّة ولكن بعد مخاض عسير وحروب داخلية ما لبثت أن وضعت أوزارها شيئا فشيئا في ظل تدخلات خارجية كان أبرزها التدخل الأميركي الذي وضع حدّا للطموحات الصربية. أعادت الولايات المتحدة صربيا إلى مصاف الدول الطبيعية التي تعرف حدودها وما عليها عمله من أجل الاهتمام بشعبها ورفاهه أولا.

ساعد الاتحاد الأوروبي كثيرا في استيعاب دول أوروبا الشرقية ودول أخرى مثل لاتفيا واستونيا وليتوانيا، في الخروج بسلام وأمان من تحت نير الاستعمار السوفياتي. أمّن لعدد لا بأس به من هذه الدول موقعا في إطار الاتحاد الأوروبي الذي لا يزال يشكل مظلة أمان وحماية للقارة العجوز، وذلك على الرغم من الموقف البريطاني الهزلي والقاضي بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي لأسباب لا يزال يجهلها معظم الذين شاركوا في استفتاء العام 2016 وصوتوا لمصلحة “بريكست”.

بعد قرن على وقف النار الذي وضع نهاية للحرب العالمية الأولى، صار العالم عالمين. هناك عالم أميركي – أوروبي ينعم بنوع من الاستقرار انضمت إليه دول جنوب شرق آسيا والصين واليابان وأستراليا والدول القريبة منها وحتّى أفريقيا في جزء منها… وهناك الشرق الأوسط الذي يمرّ في حال مخاض. لم يخرج الشرق الأوسط بعد من مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى وما قبلها ومن تداعيات انهيار الإمبراطورية العثمانية. الفارق كبير بين عالمين. عالم أراد أن يستفيد من تجارب مرّ فيها، وعالم آخر يرفض ذلك رفضا قاطعا. هل المشكلة في الاستعمار الذي حال دون تحقيق الوحدة العربية والذي وزع المنطقة بين بريطانيا وفرنسا؟ هل كانت هناك وحدة عربية في يوم من الأيّام حتّى تقوم هذه الوحدة بمجرد انهيار الدولة العثمانية أو تأميم جمال عبدالناصر لقناة السويس في العام 1956 وصدّ مصر للعدوان الثلاثي بفضل الموقف الأميركي؟ كان الرفض الأميركي لهذا العدوان، لأسباب خاصة مرتبطة بفهم إدارة دوايت ايزنهاور لموازين القوى في العالم، وراء انسحاب إسرائيل من سيناء والقوات البريطانية والفرنسية من قناة السويس والمدن المطلة عليها مثل بورسعيد.

من يتمعّن في خريطة العالم في ذكرى مرور مئة عام على انتهاء الحرب العالمية الأولى يتأكد من وجود عالمين. أحدهما استقرت دوله في إطار خريطة معيّنة، وعالم آخر لا يزال يبحث عن خريطة نهائية للعراق أو لسوريا أو للبنان الذي أزال “حزب الله” الحدود المعترف دوليا بينه وبين سوريا واستعاض عنها بحدود من نوع آخر تقوم على الارتباط المذهبي. صار الارتباط المذهبي بين النظام في سوريا، وما تمثله ميليشيا مذهبية لبنانية أقوى بكثير من الحدود بين بلدين يُفترض أن يكون كلّ منهما مستقلّا عن الآخر.

ليست دول المشرق العربي وحدها التي تبحث عن حدود نهائية لها. هناك ثلاث دول حائرة بنفسها تعتقد أنها ستكون قادرة على التوسع. تركيا صارت موجودة في شمال سوريا وليس بعيدا اليوم الذي ستعلن فيه أنّ كل القيود التي وُضعت بعد الحرب العالمية الأولى، بموجب المعاهدات الدولية التي توصل إليها المنتصرون في مؤتمر فرساي وغيره من المؤتمرات والاتفاقات التي سبقت الحادي عشر من تشرين الثاني- نوفمبر 1918 أو تلته، لم تعد تقيّدها. ليس سرا أن لتركيا تطلعات في الشمال السوري وفي الموصل وكركوك العراقيتين. لم يعد الوجود العسكري التركي في الشمال السوري وجودا موقتا. تدل كل الوقائع على الأرض إلى أن هذا الوجود نهائي، وأن النظام السوري مستعد للقبول به في حال بقاء بشّار الأسد في دمشق وإنْ بشكل صوري كما هي الحال عليه الآن.

أما إيران، فلا تزال تعتقد أنّ في استطاعتها عقد صفقة مع “الشيطان الأكبر” و”الشيطان الأصغر” تؤمّن لها هيمنة على العراق وسوريا ولبنان. يبدو أن زيارة بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، لمسقط غير بعيدة عن البحث عن مثل هذه الصفقة، خصوصا أن أهل النظام في طهران بدأوا يستوعبون معنى العقوبات الأميركية الجديدة ومدى تأثيرها عليهم. لكن أكثر ما يستوعبه هؤلاء هو قدرة “الشيطان الأصغر” على التأثير في “الشيطان الأكبر”، خصوصا بعدما انتقلت السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس من دون ضجة تذكر. باتت إيران تعرف أكثر من أيّ وقت أن مستقبل وجودها في سوريا، وبالتالي في لبنان، مرتبط بإسرائيل واستعدادها لتقديم الضمانات المطلوبة منها، إنْ عبر سلطنة عُمان أو عبر روسيا…

تبقى الدولة الثالثة الحائرة إسرائيل نفسها. ماذا تريد إسرائيل؟ ما هي حدودها؟ هل تستطيع ابتلاع الضفّة الغربية التي زرعت فيها مستوطناتها التي طوقت القدس تطويقا كاملا؟

الواضح أنّ إسرائيل تحولت إلى لاعب أساسي في المنطقة بعدما استطاع العرب عزلها لفترة طويلة. لم تستطع إسرائيل تحقيق أي اختراق في الدولتين العربيتين اللتين وقّعتا معها معاهدتي سلام. لم تخترق مصر كما لم تخترق الأردن. الآن وبسبب الشعور العربي بالخطر الإيراني، لم تعد إسرائيل تمثّل عقدة في عدد كبير من الدول العربية.

بعد مئة عام على الحرب العالمية الأولى، لا تزال هناك منطقة في العالم تعيش تداعيات ما بعد تلك الحرب. ليس معروفا مستقبل العراق وليس معروفا مستقبل سوريا، في حين يبدو واضحا من الخطاب الأخير لحسن نصرالله الأمين العام لـ”حزب الله” أن مستقبل لبنان على كفّ عفريت. نعم، هناك عالمان. عالم وجد خريطته، وعالم آخر ما زال يبحث عن خريطة.