عن صكوك الغفران للحوثيين

في 26 سبتمبر 1962 قامت في صنعاء ثورة قادتها مجموعة أطلقت على نفسها الضباط الأحرار. كانت الثورة ترتكز على إسقاط النظام الإمامي الحاكم على مدار ألف عام في شمال اليمن وإقامة نظام جمهوري ديمقراطي، وعجزت الثورة على مدار سنوات سبع على الإجهاز على النظام الإمامي وظلت الصراعات العسكرية سائدة حتى تم التوافق على أن تتزاوج الملكية بالجمهورية. فلقد نُفي آل حميد الدين وهم السلالة الحاكمة لشمال اليمن خارج البلاد، فخرج الإمام البدر، وعائلته، تاركا خلفه شيوخ القبائل الموالية لتدخل في الدولة الجديدة تحت راية الجمهورية. ولم تتم محاكمة أحد ممن أسهموا في إفقار وتجهيل الشعب اليمني بل حصل مشائخ القبائل على حصانة ومرتبات ومراتب اجتماعية عالية في إطار الجمهورية.

وحين وصل الرئيس إبراهيم الحمدي إلى الحكم في الجمهورية العربية اليمنية كانت حالة التزاوج مستقرة، فلم يكن هناك حضور للجمهورية بمقدار ما كان هناك تناغم حيث بقيت مفاصل الدولة بيد مشائخ القبائل، وهو الذي رفضه الرئيس الحمدي وبدأ بمحاولة تثبيت أركان الجمهورية عبر الأنظمة والقوانين، غير أن الحمدي اغتيل عام 1977 وظلت قضية اغتياله لغزا من ألغاز الجرائم السياسية اليمنية، لكن عودة المشائخ إلى سلطاتهم، وهم يمثلون البعد الإمامي للعهد السابق للجمهورية، يؤشر على أنهم كانوا خلف حادثة الاغتيال للرئيس وللجمهورية.

تتهامس النخبة الحقوقية والمثقفة في اليمن الشمالي بروايات حول اغتيال الرئيس الحمدي، ولا أحد يمتلك القوة للحديث الصريح عن المتورطين في عملية الاغتيال، لذلك تبقى حادثة اغتيال الحمدي تمثل أيقونة حقوقية لم تسقط عبر عقود مضت من تاريخ اليمن المعاصر، فهي تمثل في جوهرها العدالة الانتقالية لورثة الجمهورية قبل ورثة الرئيس إبراهيم الحمدي.

في صيف عام 1994 وقعت في اليمن، بجنوبه وشماله، أبشع الجرائم عندما أصدرت مراكز القوى التقليدية المتنفذة في شمال اليمن فتاوى التكفير بشعب الجنوب إثر الخلاف الذي وقع بين شركاء الوحدة اليمنية علي سالم البيض ممثل الجنوب، وعلي عبدالله صالح ممثل الشمال، وتحول الخلاف السياسي إلى صراع ديني. ومثلت فتاوى التكفير نقطة تحول ظهرت بعدها فظاعات وجرائم واسعة وصلت إلى حد استباحة كل ما على تراب الجنوب العربي بغطاء من تلك الفتاوى والشعارات المتعصبة، ليتم إغفال العدالة الانتقالية جراء المظالم التي حدثت في الجنوب للتحول إلى انتفاضات شعبية بدأت بانتفاضة المكلا عام 1997 وبلغت ذروتها في 2007 بإعلان الحراك الجنوبي مطالبه بفك الارتباط السياسي عن شمال اليمن.

لم يكن انقلاب الحوثيين على المؤسسة الشرعية في سبتمبر 2014 سوى الجريمة السياسية الأكثر بشاعة في التاريخ اليمني، فالحوثيون تعمدوا هتك النسيج الاجتماعي بكل فظاعة؛ فمن تفجيرهم للمساجد إلى تفجير منازل خصومهم، مرورا بغزوهم للعاصمة عدن وجرائم الحرب الموثقة في جريمتي دار سعد والتواهي في يوليو 2015 واستهداف البنية التحتية وتدميرها، وصولا إلى اغتيالهم الرئيس السابق علي عبدالله صالح وتصفيتهم الجسدية للمئات من ضباط الحرس الجمهوري في ديسمبر 2017.

كان زعيم الانقلابين عبدالملك الحوثي يوزع على أتباعه صكوك دخول الجنة لتحفيزهم على قتل المدنيين وانتهاك الحرمات، وكانت أذرع الحوثي في سنوات الانقلاب تعمل على تأليب الرأي العام داخل اليمن، ومن خلال وزارة التعليم غيرت المناهج وتحولت إلى مناهج طائفية تزرع الكراهية وتخرب عقول أجيال من أبناء اليمن، ومع ذلك فلقد تم الاحتفاء بانشقاق مسؤول متورط في أدلجة عقول أطفال اليمن، تماما كما يتم الاحتفاء بوزير إعلام حكومة الانقلابيين الذي شارك في ترويج الأفكار الطائفية وحرض على الكراهية من كافة المنابر الإعلامية الممولة من إيران.

تغييب العدالة الانتقالية تحت ذريعة الحث على الانشقاقات في صفوف الحوثيين مسألة فيها استهانة بمئات الأمهات الثكلى، وفيه إهانة لشعب عرف التشرد والخوف والجوع والبطش على مدار سنوات الانقلاب الحوثي. ولا يمكن قبول مبدأ “المؤلفة قلوبهم” مع كل الذين شاركوا في جريمة الانقلاب، ولا يمكن القبول بأن تمنح الشرعية صكوك البراءة لأن ذلك يتناقض مع مرجعية مخرجات الحوار الوطني التي فصلت في العدالة الانتقالية ووضعت لها إطارا لم يكن موجودا في التاريخ السياسي اليمني سابقا، وهذا ما يتعين على الحكومة الشرعية أن تعيه وهي التي تتشدق بالمرجعيات كلما احتاجت إليها.

تقديم صكوك البراءة للمنشقين عن ميليشيات الحوثي هو جريمة قانونية منكرة وخرق فاضح لمرجعية الدين الإسلامي قبل أي مرجعية أخرى، فتغييب القصاص العادل ومنح المجرمين براءة من جرائمهم أقصى ما يمكن أن تصل إليه الجريمة بحق ملايين المظلومين من الشعب اليمني، بل هي جريمة تتجاوز اليمن إلى الإقليم العربي الذي ضحى بأبنائه، السعوديين والإماراتيين والسودانيين والمغاربة، في حرب استعادة كرامة الإنسان قبل استعادة الشرعية.