عبقرية زايد

الآباء المؤسسون لدولة الإمارات العربية المتحدة وضعوا أسساً للدولة الوطنية العربية بعبقرية الشيخ زايد آل نهيان، رحمه الله، ففكرة تأسيس الاتحاد الإماراتي في العالم العربي الذي كان للتو يخرج من الاستعمار الأجنبي تظل هي مفتاحاً لنجاح الدولة العربية التي تمثل الإمارات العربية المتحدة نموذجاً فريداً في الصياغة الواقعية لها، للصعوبات والتحديات التي تتمثل آنذاك في ضعف التعليم والموارد الاقتصادية القاصرة، التجربة الإماراتية يمكن وصفها بالحالة الاستثنائية في الوطن العربي، لأن هناك دلائل كثيرة تثبت أن التغيير الحضاري ليس مجرد أفكار ترفع ولا شعارات يقع التغني بها هنا وهناك، بل هي في جوهرها تغيير الإنسان، الذي هو الرأس مال الرمزي لأي مشروع حضاري كبير، هنا يمكن قراءة المثال الإماراتي ضمن التوجهات الكبرى للشعوب التي تريد فعلاً أن تنسج طريقاً خاصاً بها، وأن تفرض نفسها بين المجتمعات الحية.

إعلان قيام دولة الإمارات في الثاني من ديسمبر 1971م يمثل إعلان النموذج العربي السياسي الأكثر عبقرية على امتداد التراب العربي، حيث نجحت فكرة تكوين الدولة الاتحادية التي فشل تكوينها في مناطق مختلفة خلال تلك المرحلة من التاريخ العربي، ولعل الإشارة إلى أن الفكرة الفيدرالية كانت قاب قوسين أو أدنى من الظهور في الجنوب العربي فلقد أوشكت مشيخات وسلطنات حضرموت وغيرها على أن تؤسس هذا الكيان، لولا أن ظهور الجبهة القومية فوت الفرصة المواتية، بينما استطاعت عبقرية الشيخ زايد آل نهيان رغم الصعوبات السياسية أمام نجاح الفكرة الاتحادية، حيث إن الإرادة والتحدي حققت الاتحاد الإماراتي.

الخط السياسي يمكن الاستدلال به عبر رؤية سياسية واضحة المعالم والغايات، فلم يكن اتفاق 18 فبراير 1968م بين المغفور لهما بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي، على تشكيل وحدة بين الإمارتين، وتنسيق الأمن والدفاع والخارجية وتوحيد الجوازات بينهما سوى خطوة توجت بتوجيه الدعوة إلى تشكيل اتحاد يشمل بقية الإمارات الخمس المتصالحة، الأساس في بناء الدولة الوطنية عبر قواعد ثابتة وراسخة هي بذاتها عبقرية صنعت الدولة الوطنية الإماراتية.

الرؤية السياسية المثالية الشاملة للشيخ زايد جلية في اهتمامه الدائم بتحقيق الرفاهية الاجتماعية، وانشغاله بصياغة مفهوم متكامل للوحدة السياسية، واهتمامه بالبيئة والموارد الطبيعية، هذه العناصر الثلاثة في سياسة الشيخ زايد، رحمه الله، نمت بطريقة نظامية ومترابطة مع الوقت، تقترن الرؤية السياسية بخصال الشيخ زايد الذاتية كقائد يمتلك الشخصية التي تمتلك العزم على التغيير بنقل المجتمع البدوي إلى مجتمع متقدم عبر تغذيته بالتعليم وتحصينه بالصحة وتسخير الموارد الممكنة في مطالع نشوء الدولة الاتحادية لتوفير القدر المحفز للشعب الذي وجد في السنوات الأولى ما يعطيه الرغبة في المساهمة المباشرة بتدعيم الدولة الاتحادية والانخراط في مؤسساتها الوطنية المختلفة.

العبقرية كانت في انتهاج التحفيز السياسي والاقتصادي لرفع المجتمع المدني وتحويله لاحقاً إلى قوة الدفع بمكونات الدولة الوطنية، ويمكن ملاحظة أن تأسيس المكونات في نطاق الدولة الاتحادية قام على التحديث والتطوير المتسارع، فلم تكن المنهجية لتترك فراغاً يمكن أن تتسلل منه المثبطات أو العراقيل الجيوسياسية، فالشرق الأوسط بطبيعته المتحركة شهد في السنوات العشر الأولى من بداية الدولة الاتحادية أحداثاً كبيرة من حرب أكتوبر 1973م، ومروراً بسقوط حكم شاه إيران عام 1979م، ووصولاً إلى اندلاع حرب الخليج الأولى مع التطورات الخطيرة التي عرفتها فلسطين والحرب الأهلية اللبنانية خلال تلك الفترة، ومع ذلك ظلت عجلة التنمية تتحرك، فالمعركة الإماراتية كانت وظلت معركة التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

هذه الأسس التي انتهجها الشيخ زايد آل نهيان، يرحمه الله، منذ التأسيس ما زالت قائمة، فلقد ورث الجيل السياسي الإماراتي المنهجية، فاستمرت القيادة على إيقاع التسارع في التحديث والتطوير وكأن الإمارات لمن يشاهدها من خارجها تسابق الأزمنة، حتى إنها تسابق نفسها، وحتى وهي تعزز القوة الصلبة عبر قواتها المسلحة التي أدهشت العالم في تجربتها عبر شراكتها في التحالف العربي فهي تعمل في الواقع على حماية قوتها الناعمة التي أيضاً تواصل منهجية زايد عبر المبادرات والحوافز المتواصلة، ما أسهم بشكل مباشر في تقدم الإمارات على مؤشرات التنافسية في كل المجالات الدولية، حتى بات جواز السفر الإماراتي يزاحم القمة بين دول العالم، هذه العبقرية التي صنعها زايد، وورثتها القيادة الرشيدة من بعده، تظل أنموذجاً تقدمها الإمارات وتتطلع لها أوطان لم تستطع بناء دولتها الوطنية، بينما الإمارات تحلق بعبقرية مؤسسها زايد، يرحمه الله.

نقلا عن "البيان"