عبارات مفخخة

من العبارات الناسفة التي يتم تداولها كثيرا عبارة مثل (... القضية الجنوبية وضرورة حلها حلاً عادلاً يلبي طموحات شعب الجنوب)، إذ تتكرر في اللقاءات الرسمية والصحافة والإعلام، من دون أن يتحسس مكرروها مدى قصورها عن أداء التعبير السياسي غير المنتقص من الاستحقاق الوطني الذي ضحت من أجله أجيالّ مختلفة.

عبارة ركيكة ( ربما خبيثة أيضاً ) لا أدري من ابتدعها أول مرة، ثم تناقلها المشتغلون بالسياسة والإعلاميون (نسخ لصق)، وحتى الحقوقيون أيضاً، وهم لا يشعرون بما تؤديه من دلالة انتقاص، لا يقصدونها، و يقصدها، بوعي ربما، آخرون منتمون إلى أحزاب صنعاء المتفرعة جنوباً. 

فالقضية الجنوبية مفهوم تم تفخيخه، ولم يطوره الساسة، بعد التحول من المستوى الحقوقي المطلبي إلى المستوى السياسي، بالتوازي مع عدم تطوير مفهوم (الحراك) الذي كان حراكاً عند انطلاقه، لكنه تحول من مستواه الحراكي المطلبي، إلى مستوى آخر تحرري، بدلالة وطنية خارج مطلبيات الأحزاب والفئات والجماعات المهمشة، فهو مستوى حركة تحررية، وليس حراكاً لا يُنظر إليه إلا كما يُنظر إلى تلك الأحزاب والفئات والجماعات، ضمن تسوية سياسية معينة.

و(ضرورة حلها حلاً عادلاً) مترتبة دلالتها على مفهوم القضية الجنوبية والحراك بما هما جزءٌ من سياق (مطلبي)، تغدو معه القضية مختلفة في الدرجة فقط عن قضية صعدة والمهمشين مثلاً. فالحل عادلاً كان أم غير عادل ليس مما ضحى من أجله الآلاف بأرواحهم. وعندما يتم التعبير عن ضرورة حلها، فذاك انسياق خلف تسوية من نوع ما، و التسويات تقترن، عادةً، بالتنازلات، في حين أن استعادة الوطن، اي وطن، لا يتنازل فيها الشعب، كأن ينزل مثلاً من مستوى الحرية إلى مستوى الحرية إلا رُبع، أو ما دون ذلك، مما يسمح لانتهازيي الجغرافيا والتاريخ والدراسات الإسلامية بالمناورة حوله، بمسميات مختلفة، لكنها تعني شيئاً واحداً: سمكرة ما بعد 94.

ثم يكملون العبارة بوصف ذلك الحل العادل بأنه (يلبي طموحات شعب الجنوب)، ليغدو كل ما في الأمر (تلبية طموحات)، وفي صيغة أخرى (تطلعات)، وكلها انتقاصية، تظهر الهدف الوطني الذي تصطف خلفه إرادة شعبية، مجرد طموح (ليس مضمون التحقق) أو مجرد (تطلّع) قد يكون مشروعاً أو غير مشروع.

ثم القفلة في الوصف بالإضافة (شعب الجنوب...) مسكوتاً عن ماهية ذلك الجنوب، لتبدو العبارة كلها مفخخة من الداخل، تشوش على مستخدميها حتى ليبدو أشبه بمن يقف أمام انتحاري مفخخ بحزام ناسف، مرتبكاً لا يدري كيف يبطل تفخيخه، وفي لحظة كتلك يبدو المتلقي أكثر ارتباكاً وتشويشاً.

والحال هذه، لا غرابة أن يقال لك: استعد شرعية الدولة اليمنية التي انتهت، حتى إذا استعدتها عد إلى نقطة انطلاقك الأولى حراكاً يناشد خصمه والعالم (ضرورة حل قضيته حلاً عادلاً يلبي طموحات....)، فتدخل بقدميك مضيق تسوية وتنازلات، ثم يدخلك ساسة الزمن الآفل نفق جولدمور آخر ، أو (يحنقط بك) ساسة الزمن بدل الضائع على جبل سمارة !