حاضر في الحروب ومغيّب في التسويات.. أسئلة في السياق

الانكماش السياسي، في أكثر الأوقات ضبابية وخطورة، فن لا يجيده سوى المجلس الانتقالي.. تاركاً جماهيره الغفيرة يعضعضون شواربهم على وقع ذكريات الحروب التي سقط فيها آلاف الشهداء وكذلك الرصاص التي واجهتها المليونيات الشعبية وكأن "قنابل الدخان" ماتزال تلف المشهد السياسي في الجنوب بغطاء من الرماد الطائر.. لا تظهر منه سوى وحدات عسكرية جنوبية تتعايش مع الفوضى والموت والفقر. فيما يستمر الجعجاعون في موشحاتهم اليومية وتكديس أكوام الشخابيط على جدران الفيس والتويتر حتى وأن تنملت أصابعهم اليابسة. ورغم الحاجة لذلك إلا أن الامر حين يسير بنفس "الريتم" والمعاني وتكرار الجمل والولولة والشكاء، يصبح قاتلاً حقيقياً للعقل وللإبداع.

"خلص" يا قوم لمن تشكون؟... لا فرق بين الزمنين وإن اختلفت الرايات، فمن قتلكم بالرصاص كعدو ولّى زمانه، وأتى من يدق المدى بالخطى الصديقة المبهمة ليسلخ معنوياتكم ويكبل طاقاتكم بالأطروحات الثخينة حول ضرورات المرحلة والتأني و"العيب" من التحالف وإعطاء الفرصة الكافية للعالم حتى ينظر في قضية اليمن... الخ
كأنه قدر سيزيف يثبت الجنوبي بصورة مستمرة أنه لم يتغير وان الجينات السياسية تتوارث وأن لا فرق بين الأولين والآخرين إلا بالبلوى.

الجنوب لن يأتي على ظهر حمام آيب أو "يفلته" منقار غراب يحوم فوق الخرائب.. الجنوب بدأ رحلة شاقة ومكلفة للغاية منذ عقد ونيف بعد إفاقة شعبية جراء الصدمة (الوحدوية) التي تراكم تأثيرها وتبالغت كدماتها حتى تحولت إلى احتقان متفجر. 
وكانت حرب عام 2015م فاصلة ونهائية، أبدى العالم فيها تعاطفاً وتفهماً للحق الجنوبي. غير أن الجنوبي الذي غيب في فراغ التهميش طويلا، لم يكن على استعداد داخلي لملء الفراغ بعد هزيمة الحوثي، وكان للتحالف هندسته الخاصة للمشهد، فأتي بالشرعية التي تموضع بها سابقا.. الشرعية والتحالف اللذان حولا الفراغ الجنوبي إلى ضياع، وباعا وهم السلطة للثوار.
هل يمكن بعد تواتر الأحداث وانطواء السنين أن ينشغل من كانوا قابضين على الجمر بمصالحهم ومكاسبهم وعلاقاتهم الجديدة؟ أينسيهم انشغالهم جروحا تركها الجمر على أكف شهدائهم وهم يوسدونهم لحدهم الابدي.. تركها الجمر على قبضاتهم هم، التي رفعوها وهم يلوحون للجماهير لحظة تنصيبهم زعماء حق وواجب، هل اهتزت أولويات تلك القبضات ولم يعد احد يتذكر بدايات المشوار الرهيب والدماء التي نزفت في السلم وفي الحرب.
أي تداعيات تلك التي شكلت لحظة الافتراق، تلك التي اختلف فيها قادة الميادين بعد أن توحدت دماؤهم قبل قبضاتهم وواجهوا الموت مقاتلين في الجبهات بذات الأفئدة التي واجهته مسالمة في المسيرات.

أيها الجنوبي الصابر ما تزال ألسنة النار تلتهم جلدك المغضن، بينما لا تزال انت وجنوبك غائب عن أنظار العالم وعن أي إشارات علنية رسمية من المجتمع الإقليمي والدولي. ولكن الاكيد انهم جميعا مشغولون عنك بك، فلتتذكر أنك من تملك العلامة الفارقة في المشهد.
فلماذا تترك نفسك متوارياً عن ذاتك، عن طبيعتك الثائرة، عن حقائق جديدة تتبلور فيك وعنك وحولك، عن فضاء انشدّدت إلى سقفه ذات يوم. لهذا آن لك الآن أن تفتش في الذاكرة وتبحث عن النقطة التي تحولت فيها من صاحب قضية إلى صاحب وكالة.

دعونا نفصل، هناك أمران:
الأمر الاول: هناك قضية جنوبية يفهمها الجنوبيون على أنها مسألة وطنية مصيرية لا تقبل المساومة وترتكز على مفهوم استعادة دولتهم بحدود 21 مايو 1990م بعد فشل الوحدة وبعد حربين كبيرتين في 1994م و 2015م.. قضية لها شعب قدم من أجلها كل غال ونفيس والأمر قائم وثابت في نفوس الجنوبيين. بينما المستجد أن الجنوبيين يوشك أن يدفع بهم بعيدا عن أمرهم وخارج المشهد، خارج الكوشة في "زفة" التسويات المفترضة.
المستجد أن الممثل السياسي الجنوبي بكل اطيافه يمارس الاستجداء للمشاركة السياسية، أن الممثل السياسي للجنوب يطرق بخفوت أبواب التحالف المؤصدة محاولا تذكيره بما قدمه من يمثلهم من تضحيات، مستعطفا على نمط "رحموت خير من رهبوت" عكس القاعدة السائدة في السياسة وفي المواجهات المصيرية.. وما ذلك إلا لأنهم لم يستطيعوا استيعاب معادلة الشراكة مع التحالف العربي وتثبيت صفقة أهدافهم الوطنية التي من أجلها "فقط" خرج المقاومون، بل جعلوا من مساندة التحالف عقيدة ومن قادته ولاة أمر. فهل تبدلت الأهداف من الدفاع عن الجنوب الى تقديم خدمات مجانية ل"ولاة الأمر"؟ ولماذا تتغير السياسة إلى عقائد في التاريخ والحاضر الجنوبي؟ ولماذا يتم في كل مرة وضع السقف الوطني تحت غطاء من خارج الدولة؟ ما أشبه الليلة بتلك التي أتت فيها الدولة منكشفة تحت فضاء جغرافي مفتوح.

الأمر الثاني: هناك قضية شمالية شديدة التعقيد عنوانها التقاتل من أجل السلطة واحتكار القوة.
الحوثيون يسيطرون على مناطق الهضبة اليمنية بثقلها السكاني الكبير ولديهم قاعدة واسعة من المؤيدين وقوة عسكرية ومخزون بشري من المحاربين وقيادات تتمتع بطاقات روحية عقائدية تتمسك من خلالها بأحقيتهم في الحكم... والدين بالنسبة لهم هو الولاية و"لا يصح الدين إلا بها". بالاضافة إلى تنظيم الاخوان المسلمين بعقيدته السياسية المعروفة وولائه المطلق للمرشد والتنظيم الدولي. ومع انحسار دور الأحزاب الوطنية، وصفرية تأثير المجموعات المدنية يصبح الفضاء السياسي شمالاً مشحون بالإرادات الدينية والقبلية التي تعتبر بكل مقاييس الدنيا غير مؤهلة لبناء دولة مدنية على الإطلاق، لا الآن ولا في المستقبل. فالحوثي هو آية الله الحاكمة على اليمن وسيبقى قوة تملي إرادتها على الجميع فيما يظل تنظيم الإخوان بمنهجه الانتهازي المعروف قوة موازية وشريكة، يتحين فرص الانقضاض على السلطة باعتبارها هدف رئيس لا تراجع عنه بكل الوسائل "لبناء المجتمع المسلم واعادة صياغة القيم العامة وفقا لذلك". وهو التنظيم الذي "إذا انتصر تمسك بالسلطة وإذا انهزم تمسك بالعقيدة".
فمن يقنع الولي الفقيه أو المرشد ومن معهم أن يتخلوا عن حقهم الإلهي في الحكم والهيمنة المطلقة؟
وعود على بدء...هل تمنحك أيها الجنوبي الحالم هذه القوى الدينية وعداً بالتفاوض حول "مصيرك وحقك في الحياة الحرة" أم انك تبلع الحقائق من أجل إلصاق إرادتك بذيل الإقليم وتسوّق فكرة ال"ما بعد الحرب" وفقاً للمنطق التلفزيوني في التحليل السطحي البليد؟؟

أنت الآن ضحية نفسك، أيها الجنوبي! يؤجلونك وينتحلون عنك من يتصدر مشهدك ويروج لاستراتيجية الصبر والجمود والانتظار حتى يلتئم الخصوم وتصلح أحوالهم وتعود دولة ٢٢ مايو تحت مظلة إقليمية دولية... ثم تتقدم بطلب التفاوض حول تقرير مصيرك، وفقا للاصطلاحات الدوغمائية التي تم رفضها منذ البدايات الأولى… ومع ذلك تأكد أنهم سيرفضون التفاوض معك ويرفضونك.. سيرفضونك لأنك لم تضع نفسك في وسط العقد حيث يجب ان تكون وحيث يؤهلك مطلبك العادل وجغرافية أرضك الاستراتيجية.
ويرفضونك لأنهم لا يعترفون بك إلا (بالكاد) كملحق في "المعلقات السبع" المستدركة على جدارية المحادثات الفائتة والقادمة بعد ان يخلص الشجعان من قضاياهم الرئيسة.. حيث تصبح قضيتك ضمن مسائل "اللامركزية والعدالة الانتقالية والمصالحة والدستور والانتخابات"، في حزمة متفرقات اجرائية.
الم يخالجك سؤال بديهي! من سيفاوضك؟ وهم لم يقطعوا لك وعداً بذلك وليس بينك وبينهم عهد أو ميثاق يلزمهم؟ ومعلوم ان ليس من أحد في العالم أو الإقليم وضع حتى نقطة من حبر، سرّي أو علني على ورق طائر، في أي شأن لحل قضيتك حسب إرادتك ومطلبك … 
لعل اطمئنانك الواهم يقول لك أن المحاولة مازالت في جيبك حتى يحين وقتها، فليعلم استرخاؤك ان الوقت كالسيف سيقطعك، وان حاولت وقتئذ -الفائت في نظرهم- أن تتمسك بحقك على الأرض ستكون بكل المقاييس قد تأخرت جداً لانهم سيحاربونك مجتمعين موحدين باسم الدولة التي يرعاها العالم، والتي يكرر عليك في كل "ادبية" جديدة له الحفاظ عليها، مدفوعا بحضورهم خلف رأسه بأياديهم على قلمه!
وسيعتبرون الدفاع عن تلك الوحدة مرة أخرى مهمة سماوية مقدسة وسيلقون ذات التعاطف من جمهرتهم ومن الخارج.. وأنت لن تكون أكثر من مقاتل ضد الدولة بدرجة متمرد!!
هل هذا ما تنتظره؟

ليس مطلوب منك أن تصدر بيان رقم واحد وأن تقفز الى المجهول، وإنما ان تستكمل وضع يدك على ارضك وتسترد ما تبقى منها وتعلن نفسك طرفاً بصورة واقعية بعد أن تترجم ذلك عملياً، وليس فقط على قنوات الأخبار وعناوين الصحف. وإن تولاك العجز والحيرة ولم تستطع ان تنجز شيء فعلى الأقل لا تتنازل بصورة مجانية عن أهدافك المباشرة كرمى لسمعة المملكة او دولة الإمارات حتى لا يقال عنهما أنهما يؤيدان الحق الجنوبي! وكأن الحق الجنوبي "عار عروبي"، فهل أنت عروبي ضد "الفرس" أم أعرابي ضد مصيرك؟ أم في طريقك لأن تصبح اسطنبولي الهوى دون أن تدري؟

لم يعد للصابرين من أفق واضح بعد أن لمعَ الضوء في الظلام دون أن تصاديه لمعة العقل فولى شارداً.. لهذا هناك حاجة ماسة للإفاقة الثانية.. إما بالصدمة التكتيكية أو بإعادة توازن الطاقة واكتشاف قوة الحياة مرة أخرى في "غفاة البشر" ليس على طريقة عمر الخيام وكؤوس المنى ولكن بأي وسيلة أخرى حتى بواسطة الوخز بالإبر الصينية! فمن سيفعلها؟
سلام على دماء من رحلوا.