قد يكون الحل في اليمن: يمنين!

محمد الرميحي

تظهر أخبار اليمن بين فترة وأخرى على السطح، وفي أوقات أخرى تختفي، لكن ما يظل في الحالتين هو استمرار العنف والقتل.

لكل شعب عملٌ يشتهر به، وربما أشهر الأعمال لليمنيين في تاريخهم هي الحروب، لذلك يقال إنهم حتى الساعة أكثر شعوب الأرض حملاً للسلاح. المشهد اليمني بانفعالاته وسخونته وكوارثه وتحدياته يحتاج إلى مقاربة خارج المألوف، لقد استمرت الحرب الأهلية بعد القضاء على الإمامة عام 1962 ثماني سنوات طوال، وبعد أن اتفق الراحلان الملك فيصل بن عبد العزيز وجمال عبد الناصر على العمل على تسوية سياسية في اليمن، شُكلت لجنة مشتركة، كان الراحل الساخر غازي القصيبي مستشاراً قانونياً لها، ونقل لنا صور محزنة في كتابه «حياة في الإدارة»، هي صورة مبكية/ مضحكة، حيث قال إن أحد شيوخ القبائل كان قد أسر رجلين من الجنود المصريين، فكتبت إليه اللجنة أنها على استعداد لدفع ثمن تحريرهما.

الرسالة سمّته الشيخ «فلان» فأعاد الرسالة على أن تُكتب له تسمية تليق به وهي «اللواء». غضب الضابط المصري وامتنع عن الكتابة للشيخ لأنه لم يدخل قط مدرسة عسكرية. أقنعه غازي بأن يفعل إنقاذاً للأسرى ففعل. ثم يكمل غازي الرواية فيقول: «وقد علمت بعد ذلك أن الشيخ قد قُتل في إحدى المعارك، أما الذي لا أعرفه فهو على أي رتبة عسكرية قُتل!». ساخر هو غازي ومُوصل لرسالة واضحة حول الفوضى التي تسود حروب اليمن الأهلية المتعددة والمتكررة، ولكن العبثية.


في الوفاق اليمني الذي أعقب حرب الجمهورية والإمامية عام 1970 وصل اليمن إلى لا جمهورية حديثة ولا إمامة قديمة فيما عرف بـ«المصالحة الوطنية». أصبح في اليمن فيما يقرب من الأعوام الستين الماضية شيء أقرب إلى حكم «الجمكرية» أي «الجمهورية العسكرية»، فقد فشلت النخب اليمنية على اختلاف توجهاتها في إقامة دولة حديثة في الشمال والجنوب على حد سواء، ولم تتفق على شيء قدر اتفاقها على الحضور معاً إلى «مقايل القات».

ليس ذلك بمستغرب، فقد كان الفشل في إقامة دولة حديثة بدرجات مختلفة قد أصاب معظم الدول العربية بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. إلا أن فشل النخب اليمنية جلب معه شلال دماء متكررة ودورية، وتُركت ساحته، خصوصاً شبابه، للتنظيمات الآيديولوجية المتعاكسة، وقد لعب وزير التعليم في فترة ما بعد عبد الملك الطيب رأس الجسر لتمكين ما عُرف بـ«الإسلام السياسي» في مفاصل الشبيبة اليمنية.

تعاقب على حكم اليمن في الشمال ستة رؤساء (بحساب هادي الذي لا يعرف أحد كيف يصنّف زمن حكمه): ثلاثة منهم اُغتيلوا ببشاعة، واثنان أُزيحوا بانقلاب عسكري، وواحد فقط استقال بضغط من العسكر. وفي الجنوب تعاقب على الحكم خمسة رؤساء: اُغتيل اثنان، وسُجن آخر إلى أن مات، ونُفي اثنان إلى الخارج هرباً بجلدهما! إحدى أهم ظواهر حروب اليمن «سرعة تحول الحلفاء إلى خصوم والخصوم إلى حلفاء» دون الكثير من التفسير العقلاني. الحرب الأهلية الحالية لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية ويُدفع فيها هذا الثمن الإنساني الرهيب، وأحد أطرافها الحوثيون وهم جماعة أقلية ينتمون إلى الطائفة الجارورية المتطرفة في المذهب الزيدي، يدعمهم النظام الإيراني، وحرب اليمن الأهلية بالنسبة إلى إيران منخفضة التكاليف ومفيدة، ما دام الدم المراق يمنياً، وهي طائفة لا يمكن أن تلقى قبولاً كبيراً في اليمن حتى من الزيود أنفسهم، لأنها لا تملك مقومات الشمول الآيديولوجي الذي ملكه بعض الآيديولوجيات التي مرّت على اليمن. القبلية هي العمود الفقري للمجتمع اليمني وقد أصابها بطبيعة الحال شيء من التآكل على مر الأعوام الستين الماضية فأصبحت الأحزاب، أو شكل ما من الأحزاب، هي البديل المؤقت للقبلية، وكانت في الغالب ذات جذر قبلي ملتفٌّ حوله بعض «شوارد» النخب المتعلمة والطموحة والقابلة للإفساد من خلال أجهزة الدولة الفضفاضة.

«الجمكرية» في اليمن كان يعنيها أن تحوز موارد الدولة وتوزعها على الأقارب والقابلين بتسيّدها وأيضاً تخزين الكثير من الفائض منها في الحسابات الشخصية، لم يكن في تاريخ اليمن الحديث دولة بالمعنى المقبول للدولة، حتى في أقوى مراحل حكم علي صالح كان الأمن العام خارج صنعاء مشكوكاً فيه!

بعد السنوات الخمس الأخيرة العجاف التي شهدت يمناً أكثر فقراً وأشد مرضاً وأكثر جهلاً وأعمق تخلفاً بسبب ذلك الصراع المميت بين النخب اليمنية والتي لا يعني لها الجمهور العام شيئاً البتة، وهو الجمهور الذي يعاني الفقر والمرض والجوع اليوم، هل أصبح سيناريو عودة اليمنين؛ واحد في الشمال وآخر في الجنوب، أحد السيناريوهات المقبولة والمحتملة إنسانياً للخروج من مأزق الحرب الضروس؟ قد يكون ذلك و«قد» هنا كبيرة ومهمة ولها شروطها الموضوعية. فإن جمهورية يمنٍ جنوبي ضعيف وملحق وغير قادر على بناء دولة حديثة وتبادل سلمي للسلطة في المستقبل، لن تعني شيئاً كثيراً للأزمة اليمنية، ولكنّ جنوباً جمهورياً حقيقياً يؤهل لبناء دولة حديثة هو المعنيُّ؛ فهو أولاً يسمح بوجود سلطة على كلٍّ من الداخل الجنوبي وأمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وهما القضيتان اللتان تهمّان العالم من جهة أمن المسارات البحرية الدولية، وثانياً، يقضي على إمكانية استغلال الفراغ السياسي لظهور التطرف مثل «القاعدة» أو «داعش» وسط رخاوة السلطة، تلك بيئة صالحة لنشاط التطرف والعنف. في حال ضبط المتغيرَين الاثنين (أمن المضيق، وتجفيف منابع التطرف) تصبح دولة الجنوب مؤهلة للانخراط في المحيط الإقليمي وفي العالم، وأرضها في الغالب منبسطة، وإن أُلحقت بها الحديدة وما جاورها يُترك الشمال، كي تقوم آليات الضبط فيه، ولو على سنوات، لاستتباب أمن معقول يتناسب مع ما يرغب فيه أهل اليمن الجبلي من سلمٍ وحياة أفضل.

المؤكد أن اليمن الشمالي هذا لن يرضى أن يكون نسخة مذهبية لإيران.

 اليمن بشكل عام بلد فقير ولكنه أيضاً متوفر على كثير من موارد الثروة إن تم استغلالها بالشكل الصحيح، والأكثر إن تم توزيع ثمارها بالعدل. في هذا السيناريو يمكن أن تنخفض التهديدات القادمة من اليمن للأمن والسلم الإقليميين. ليس هو بالطبع السيناريو الأفضل على الإطلاق ولكنه بالتأكيد السيناريو الأرجح لوقف هذا النزيف.

إن عدم توفر الشروط التاريخية لقيام دولة بالمعنى الحديث في اليمن، وغياب بناء مؤسسات وقوى اجتماعية وازنة، يُبقي الاحتكام إلى السلاح (كبر أم صغر) الممر الوحيد للقفز على السلطة، ولو توقف المتخاصمون ليفحصوا ما هو المتنازَع عليه فلن يجدوا إلا لحم ودماء أغلبية اليمنيين. هنا يتوجب الحديث بشجاعة ولو من خارج النخب اليمنية، عن أن هدم التصورات السابقة الفارغة التي لم تؤدِّ إلى شيء، وبناء تصور جديد واقعي وعملي على قاعدة دولة مدنية، قد يكونان المخرج الأقرب لحقن الدماء.

آخر الكلام: 
وثيقة الحوار الوطني «اليمني» الشامل تنص على أن الوحدة اليمنية اتفاق بين «دولتين»!





مقالات الكاتب