الجنوب العربي.. من العزلة القسرية إلى الشراكة الدولية
أنيس الشرفي
دأب ساسة الشمال وقواه المتنفذة على تصدير وزراعة بؤر ومشاريع مقلقة لدول الإقليم والمجتمع الدولي إلى أرض الجنوب، وعمدوا لجعل واقع جغرافيا الجنوب ساحة للفوضى يجلبون إليها كل من ينتمي لفكرٍ متطرف أو يناصر مشاريع دموية تكن العداء المطلق لدول الجوار أو لدول الغرب، وحاولوا إظهاره كبؤرة تهدد الأمن والسلم الدوليين في منطقة هامة على طريق الملاحة الدولية.
وبذلك استجلبت قوى نظام صنعاء مشاريع الهدم إلى الجنوب؛ لاستخدامها وسيلة لصنع صورة مقلقة عن شعب الجنوب أمام المجتمع الإقليمي والدولي، وسخرتها كفزاعة ثم كورقة لمقايضة دول الجوار والقوى الدولية الكبرى؛ لتضمن غض الطرف عن استخدام قوى نظام صنعاء القوة العسكرية المفرطة لفرض هيمنتها ووصايتها وإحكام قبضتها الحديدية على الجنوب، ويتغاضون عن ممارساتها لنهب ثروات الجنوب وقتل شعبه والتنكيل به، تحت يافطة فزاعات مصطنعة مثل (الشيوعية، والإرهاب، وتشظي الجنوبيين واستحالة اتفاقهم)، والقيام باستجلاب تجربة نظام الحكم في الجنوب خلال الفترة (1967م – 1990م) بما شابها من أخطاء وتجاوزات لتعزيز تلك الادعاءات المضللة.
وهو الأمر الذي ساهم في انحسار علاقات دول العالم، وتقليص تواصلها مع القيادات والنخب الجنوبية، ودفعها للتوجس من الجنوبيين، مؤثرة تقبل الشماليين على مساوئهم عن التعامل مع الجنوبيين، وفق ما صورتهم التقارير الاستخباراتية لمطابخ “الأمن القومي” التابع لنظام صنعاء.
أولاً: رهانات العزلة
قامت القوى الشمالية النافذة بتصدير عدد من مشاريع الهدم والتخريب والفوضى المصطنعة القادمة من أقبية نظام صنعاء لتهديد مصالح العالم متخذة من أرض الجنوب مقراً لها، ليتاح لها إظهار شعب الجنوب كحاضنة مصدرة لتلك المشاريع، بهدف عزل شعب الجنوب وقطع اتصاله واحتكاكه مع دوائر صنع القرار الإقليمي والدولي، بغية التمكن من استباحة أرضه ونهب ثرواته، وتهجير شعبه ومصادرة حقوقهم ومحاولة تغيير هويته وبنيته الديموغرافية.
وتتمثل أبرز شماعات الهدم التي راهنت قوى نظام صنعاء عليها لعزل شعب الجنوب في الآتي:
1. ربط الجنوب بالفكر الشيوعي
محاولة ربط الحراك الجنوبي وترويج تبعيته للحزب الاشتراكي ومن ثم بالفكر الشيوعي، وهو الملف الذي لا تزال قوى صنعاء تروجه لدى دول الجوار، وتعمل بكل جهد لتخويفهم من عودة الفكر الشيوعي حال تمكن الجنوبيين من امتلاك قوة ونفوذ، أو السيطرة على أرضهم، مدعية بأن المجتمع الجنوبي متشبع بأيديولوجيا وفكر شيوعي معادي لجواره ولتوجهات أمريكا ودول أوروبا.
ومع أن الحزب الاشتراكي كان من صنيع قيادات شمالية لجأت لترويجه ونشره في الجنوب، ووجد حينها ظروفا مكنته من امتلاك الحكم في الجنوب، بيد أنه اليوم قد انتهى في موطنه ومهده الأول، فما بالك في بيئة كالجنوب المتصلة بجوارها العربي والرافضة للفكر الشيوعي بكل تجلياته.. إذ أصبح الجنوب اليوم أبعد ما يكون عن الشيوعية، بل إن شعب الجنوب يرى بأن ذلك الفكر الشمولي الذي انتهجه الحزب الاشتراكي هو المتسبب بإيصال الجنوب إلى وضعه الراهن.
2. زرع تنظيمات إرهابية في الجنوب
بعد الوحدة استدعى صالح وحلفاؤه في حزب الإصلاح المجاهدين العرب في أفغانستان، وأوكل إليهم مهمة تصفية قيادات الجنوب تحت مسمى تطهير اليمن من الفكر الشيوعي، وهو ما قاد لأزمة كبيرة بين طرفي الشراكة في مشروع الوحدة (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية “الجنوب”، الجمهورية العربية اليمنية “الشمال”)، وتسبب باندلاع حرب 1994م، حينها صدرت فتوى لعلماء دين شماليين (ينتمون لحزب “التجمع اليمني للإصلاح” فرع “جماعة الإخوان المسلمون” في اليمن) كفروا بموجبها شعب الجنوب، وأباحوا قتلهم، فتم استجلاب آلاف “الأفغان العرب” وإسنادهم بجيش من المتشددين، ودفعوا بهم لغزو الجنوب تحت تأثير “الفتوى الدينية”، الأمر الذي ساهم بتجييش عشرات الآلاف من العوام، مما أدى اجتياح الجنوب واحتلاله بتاريخ 7 يوليو 1994م.
بعدها منح نظام صنعاء قيادات التنظيم المتطرف رتبا عسكرية، وصرف لهم أراضي ومساكن في الجنوب، ووفر لهم إمكانيات هائلة لاستدراج الشباب الجنوبي إلى صفوفهم، واستخدامهم كأداة لتصفية كل من يطالب باستقلال الجنوب، وفزاعة لتخويف العالم من الجنوب جغرافيا وإنسان، حيث عمدوا لتصوير الجنوب جغرافيا وشعب -كموطن للتطرف والإرهاب- فيما احتفظ نظام صنعاء بسيطرته وتحكمه بالتنظيم من خلال قياداته الموظفين في أجهزة الدولة -المرتبطين بقيادات رفيعة في النظام- وعمد لتوجيههم وفق ما يتناسب وأهواء نظام صنعاء، وبما يمكنه من استخدامهم كأداة لتهديد الداخل والخارج على حدٍ سواء.
ورغم تنبه الكثير من أبناء الجنوب للأمر مبكراً، وتوجيههم دعوات متكررة لدول الجوار والأمم المتحدة ومجلس الأمن، تنبههم فيها إلى أن “نظام صنعاء” هو من يتحكم بالتيارات المتشددة ويدير عملياتها، إلا أن العالم أبقى تصنيف مناطق الجنوب كمناطق موبوءة بالإرهاب، واستمر بدعمه وتمويله لنظام صنعاء بهدف مكافحة الإرهاب، وهو ما كان يزيد شهية أطماع النظام فيدفعه لرفع معدلات مخاطر الإرهاب؛ للحصول على مزيدٍ من الدعم.
ومع أن قوى النفوذ الشمالية هم صانعوا تلك المشاريع، وهم المتحكمون بقراراتها والموجهون لسياساتها، إلا أنهم أنشأوا معسكراتها على أراضي وجغرافيا الجنوب؛ ليستغلوا ذلك الأمر لتكوين صورة سلبية لدى الأنظمة العربية والغربية تجاه المجتمع الجنوبي.
ولم يدرك العالم تلك الحقيقة، إلّا بعد أن أثبت لهم الجنوبيون رفضهم للتطرف، وعزيمتهم على مكافحة الإرهاب، بما حققوه من نجاحات مشهودة على أرض الواقع في هذا الملف منذ 2015م ولا زالوا يسطرون ملاحم بطولية في معركتهم ضد الإرهاب في كافة الأراضي الجنوبية.
3. الرهان على فزاعة تشظي الجنوبيين واختصامهم واستحالة اتفاقهم
يشير الكاتب الغربي (بيتر سالسبيرج) في تقرير له بعنوان (الجنوب برميل البارود) قائلاً: “من الناحية التاريخية، اعتقدت النخب السياسية والمسؤولون الأجانب أن “القضية الجنوبية” يمكن تأجيلها إلى أجل غير مسمى بسبب نقص التماسك الاستراتيجي بين الجماعات المؤيدة للاستقلال، ورغم أن الجماعات المؤيدة للاستقلال لم تكن موحدة بالكامل، إلا أنها أصبحت أكثر تنظيماً وأكثر تسليحاً بكثير، إذ أظهر القتال الأخير في عدن بين القوى المؤيدة لاستقلال الجنوب والقوة الموالية للحكومة، القوة النسبية والتماسك للحركة المؤيدة للاستقلال، وإمكانات القضية الجنوبية، والتي إذا تُركت دون معالجة فقد تؤدي إلى زيادة تعقيد الجهود الرامية إلى إنهاء الحرب الأهلية الجارية في اليمن”. القتال المشار إليه من قبل الكاتب سالسبيرج هو (أحداث28 – 29 يناير 2018م).
وبالنظر إلى مضامين حديث الكاتب الغربي، نجد بأن المسؤولين والنخب السياسية الأجنبية قد تفاجأت بما أظهرته قوات المقاومة الجنوبية من تنظيم وقدرات، بما جسدته من أداء عالٍ وتماسك أثبت بأن الجنوبيين على قلب رجل واحد، وأن مطلب استقلال الجنوب واستعادة دولته، هو مطلب يجمع عليه غالبية فصائل وقوى وتكوينات المجتمع الجنوبي.
4. الرهان على انعدام المسؤولية واستحالة تنظيم وبناء هياكل مؤسسية جنوبية
تم الترويج بأن الجنوبيين عديمو المسؤولية وأنهم يفتقرون لوجود أي نموذج تنظيمي مؤسسي كفيل بتمكين الجنوب من تأهيل وبناء مؤسسات الدولة، وتطمين المجتمع الإقليمي والدولي من أن الجنوب لن يذهب إلى الفوضى الخلاقة.
وفي الحقيقة إن وجد إخفاق تنظيمي في الجنوب فهو محدود ومرتبط ارتباطاً وثيقاً بمحاولات الاختراق والتفريخ المتكررة من قبل القوى المعادية المتمثلة في شراء بعض الذمم والإعلان عن تكوينات سياسية هلامية لا تمتلك أي حاضنة على أرض الجنوب. يتم زرعها لتمزيق النسيج الاجتماعي الجنوبي وتشتيت صفه وزعزعة موقفه، واستغلال التباين السياسي بين الثوى الجنوبية لتعميق الشرخ بينهم، وإفشال أي توجه لبناء المؤسسات وإقامة النظام والقانون في الجنوب.
وتجلى ذلك بصورة أوضح عبر إعلانهم مؤخراً عن مكون سياسي بقيادة شخصيات حزبية تنتمي لأحزاب نظام صنعاء، وكذلك في تدخلاتهم المستمرة في صلاحيات السلطات المحلية بالمحافظات الجنوبية المحررة، بهدف إفشالها وتعطيل عملها والحيلولة دون تمكينها من إنجاز الخطط التنظيمية المختلفة لها وإعادة بناء مؤسسات الدولة في مختلف المحافظات الجنوبية المحررة منذ ما بعد أغسطس 2015 م وحتى يومنا هذا.
وبرغم ذلك، فإن الحركة الوطنية التحررية في الجنوب تمكنت أن تحقق منذ تشكيل “المجلس الانتقالي الجنوبي” قفزة نوعية في مجال التنظيم وبناء الهياكل المؤسسية، وأنجزت شوطاً كبيراً على طريق بناء مؤسسات الدولة على مختلف المستويات.
كما أن أحداث الجنوب أظهرت مدى الانضباط والالتزام بتنفيذ قرارات القيادة العليا، إذ تخضع كافة الوحدات العسكرية والأجهزة الأمنية المؤيدة لمشروع الاستقلال لقيادة المجلس الانتقالي الجنوبي، وتأتمر “رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي” اللواء عيدروس الزبيدي، رغم اندفاع القيادات العسكرية الميدانية والأفراد المشاركين في الميادين، إلا أنهم جسدوا نموذجاً فريداً في التماسك والانضباط والالتزام بتنفيذ أوامر القيادة العليا، وهذا ما لمسناه في عدة مواقع أهمها انسحابهم من بوابة قصر معاشيق وعدد من المعسكرات في عدن التي أحكموا سيطرتهم عليها أواخر يناير 2018م.
وبهذا المستوى من الانضباط والتماسك والالتزام بأوامر القيادة، تمكن الجنوبيون من إسقاط شماعة أخرى من تلك الشماعات التي دأبت قوى نظام صنعاء على ترويجها، وإثارتها كفزاعة لدى أجهزة المخابرات الدولية لتضمن من خلالها استمرار العزلة القسرية على شعب الجنوب.
5. الرهان على قوة نفوذ وتأثير الأحزاب الشمالية في المجتمع الجنوبي
حرص ساسة الشمال أن يزرعوا أدوات وعناصر تابعة لهم في الجنوب، تضمن لهم إفشال أي مسعى جنوبي للالتئام أو التوافق بين أقطاب القوى والنخب السياسية الجنوبية لبناء هياكل مؤسسية قوية تضمن لهم المنافسة على النفوذ والسلطة والثروة، ويأتي ذلك بهدف إقناع أصحاب المصالح الإقليميين والدوليين، بأنهم الشريك الأنسب لحفظ مصالح الخارج، وأن الخارج لن يجد أي بديل جنوبي يحفظ مصالحهم ويمنحهم امتيازات كتلك التي يوفرها نظرائهم الشماليين.
ومنذ اجتياح الجنوب عسكرياً عام 1994م، وسقوط الحزب الاشتراكي -الحزب المتفرد بحكم الجنوب قبل الوحدة- عمد نظام صنعاء لتصفية وتهجير قيادات الحزب، وشراء ذمم من استطاع شراءه بالمال أو بوظيفة منهم، وإنهاء حضوره كطرف أساسي يمثل الجنوب في اتفاقية الوحدة، من خلال حل كافة الوحدات العسكرية والأمنية الجنوبية، والاستغناء عن كافة كوادر الجنوب المدنية والعسكرية والدبلوماسية، وإنهاء تواجدهم في أيٍ من مؤسسات الدولة بمختلف مستوياتها أو سلطاتها – التنفيذية، والتشريعية، والقضائية- ثم اتجه لتدمير دعائم ومرتكزات الدولة المدنية في الجنوب، من خلال تمزيق نسيج المجتمعي الجنوبي، وإحياء الثأرات وثقافة الاحتراب والفيد والغنيمة؛ ليشغلهم ببعضهم، ويتمكن من استنساخ شخصيات مرتبطة بنظام صنعاء يستخدمها لاصطناع برواز تمثيل “شكلي” لشعب الجنوب في مؤسسات الدولة.
تقاسمت قوى نظام صنعاء بعد اجتياح 7 يوليو 1994م لأرض الجنوب، نصيب الجنوب في السلطة، وشرعوا القوانين واللوائح التي تحظر تأسيس أي كيانٍ (حزب) سياسي ما لم يكن له حضورٌ وأعضاء في أكثر من ثماني محافظات، في حين ظل الجنوب محصوراً بست محافظات حتى اعتماد محافظتي (الضالع 2004( و(سقطرى 2013). (مع أن الضالع جمعت بين مديريات جنوبية وأخرى شمالية).
وهو الأمر الذي لطالما دفع الخارج للتعامل مع ساسة الجنوب وقواه ونخبه كقوى أو أطراف ثانوية ضئيلة التأثير على مراكز صنع القرار، ومحدودة الإمكانية والقدرة على حفظ أو تهديد المصالح الإقليمية والدولية، أو إحداث اختلال جوهري في منظومة النفوذ والسيطرة وتغيير موازين القوى، وغير مؤهلة للاعتماد عليها كشريك محلي فاعل للدول صاحبة المصالح المرتبطة بأرض الجنوب.
مما حدى بدول العالم لإهمال الجنوبيين، لوجود شخصيات متباينة ومتصارعة مع بعضها، وفي الوقت ذاته مرتبطة بمراكز نفوذ شمالية ومرتهنة بتبعيتها لتلك القوى، ودفع تلك الدول للعمل على احتواء ساسة الجنوب ونخبه عبر مراكز النفوذ الشمالية؛ باعتبارها هي صاحبة القرار وبيدها تطويع الجنوبيين وتوجيه قراراتهم، لذا لجأت لاختصار المسافة؛ طالما وبإمكان تلك القوى أن توفر لهم ما لا يمكن لأي جنوبي توفيره، فضلاً عن تأثيرها سلباً وإيجاباً على المصالح الدولية في الجنوب.
ولذلك، فقد وجه شعب الجنوب بتأسيس المجلس الانتقالي صفعة مدوية لأحزاب الشمال، إذ تمكن بمعية “قوات المقاومة الجنوبية” والأجهزة الأمنية المتمثلة في (الحزام – النخب الأمنية الجنوبية) خلال فترةٍ وجيزة، أن يصبح أحد أبرز اللاعبين على الساحة المحلية (سياسياً، وعسكرياً، وتنظيميا)، حيث يسيطر اليوم على أغلب أراضي الجنوب، ويقود حملات أمنية كبيرة للإجهاز على بؤر التنظيمات الإرهابية، كما يسطر ملاحم بطولية في مقاومة العدوان الحوثي، بل إن الحراك الجنوبي منذ تأسيس المجلس الانتقالي، تمكن من تطوير أدائه، وأصبح مبادراً لصناعة الأحداث، وإرباك الخصوم، بعد أن ظل محشوراً في زاوية ردود الفعل تجاه أحداث يصنعها خصومه منذ عام 1994م.
6. عزلة النظام الحاكم للجنوب قبل الوحدة وانغلاقه على ذاته
تمثلت عزلة (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) متأثرة بسياسة ونهج نظام الحزب الحاكم في الجنوب (الحزب الاشتراكي اليمني)، التي استقامت على عاملين شكلا نقطة عزلة الجنوب وانغلاقه على ذاته، وقوضا من دوره وحضوره وعلاقاته مع دول الجوار وكافة دول النظم العلمانية.
وتمثل العامل الأول بالانطواء السياسي، وانتهاج سياسة أحادية الجانب، تقوم على انحسار علاقات التطبيع الدبلوماسي، على دول “المعسكر الاشتراكي” (دول العالم الثاني) مبتعدة عن جوارها ومحيطها العربي الذي تنتمي إليه (دول العالم الثالث – الدول النامية) وعن المعسكر العلماني فيما يعرف بـ (دول العالم الأول)، وهو ما قوض من قوتها وأضعف علاقاتها وحد من تماسكها، ومن ثم تسبب بإرباكها وضاعف تحدياتها، عقب انهيار الاتحاد السوفييتي في ثمانينات القرن الماضي.
فيما تمثل العامل الثاني لعزلة نظام الحكم في الجنوب وانغلاقه آنذاك، بالسياسة الاقتصادية التي انتهجها نظام الحزب الاشتراكي، الذي لم يتقبل إجراء أي إصلاح أو تصحيح لسياسته المالية أو الانفتاح على السوق، مما حال دون السماح بأي استثمار للقطاع الخاص، بل قام بتأميم كافة ممتلكات المستثمرين الجنوبيين والأجانب الذين كانوا قد جعلوا مدينة عدن بمثابة سوق تداول وشحن وإعادة تصدير عالمية يقصدها المستثمرون من كافة دول العالم العربي والقرن الأفريقي.
وبذلك فقد ساهم نهج النظام الحاكم للجنوب قبل الوحدة، في انحسار الدور الاقتصادي المحوري الذي كان للجنوب أن تلعبه، انطلاقاً من موقعها الاستراتيجي الرابط بين الشرق والغرب، وبوابة العالم للولوج إلى قارة أفريقيا، فضلاً عن امتيازات موقع وتضاريس وبيئة ومناخ جغرافي واجتماعي، وتميز ميناء ومدينة عدن كميناء ومدينة عالمية جاذبة لرؤوس الأموال، قبل أن يحولها نظام الحكم آنذاك إلى بيئة طاردة للاستثمار، مهدراً على الجنوب فرص كبيرة لو أحسن استثمارها لجعلت من الجنوب دولة حديثة متطورة قد تفوق أو تضاهي دول الخليج العربي تطوراً وحداثة، بل لما وقع في خطأ الوحدة الفادح الذي لا تزال الجنوب تعاني تبعاته حتى يومنا.
يشار إلى أن ذلك النهج الشمولي والسياسة الأحادية الجانب، التي تسببت بانعزال الجنوب، وصراع أركان حكمه فيما بينهم، كانت من صنيع الجناح الشمالي المتغلغل في أوساطهم، والمستحوذ على أهم المناصب المتصلة بتشبيك العلاقات وجمع وتتبع المعلومات وتوجيه صناع القرار آنذاك (استخباراتياً- وسياسياً- ودبلوماسياً- واقتصادياً- واجتماعياً) وخاصة دبلوماسياً واستخباراتياً.
ثانياً: ملامح الانفتاح الدولي على الجنوب
لقد رسمت إفرازات العقد الأخير ومتغيراته واقعاً مختلفاً للمشهد الجنوبي خاصة، والمشهد السياسي لمنطقة الشرق الأوسط عامة، ونظراً لموقع الجنوب الجيوستراتيجي الهام على طريق الملاحة البحرية، وأهميتها المحورية لكلٍ من مصالح الشرق والغرب، فضلاً عن كونها تعد المدخل الجنوبي إلى شبه الجزيرة العربية، ذات الاحتياطي النفطي الكبير، فإن ذلك وفر للقوى الجنوبية – بقيادة المجلس الانتقالي- فرصة مواتية للعب دور محوري مرتبط بمصالح الدول الكبرى، وساهم في تقليص فرص قوى النفوذ الشمالية لفرض الوصاية على شعب الجنوب، أو استنساخ تمثيل شكلي باسم شعب الجنوب، وهو ما أثبتته أحداث الجنوب الأخيرة في أغسطس 2019م، ومشاورات حوار جدة التي انبثق عنها اتفاق الرياض، الذي يعيد تشكيل الخارطة السياسية، ويرسي دوراً محلياً وإقليمياً متزايداً للمجلس الانتقالي الجنوبي كقائد لمشروع الاستقلال، وإلى جانبه كل قوى الاستقلال الجنوبية.
وهو ما قد يسهم بدفع دول العالم لقبول ربط مصالحها ذات الصلة بجغرافيا الجنوب بتنمية وتوثيق علاقاتها بالانتقالي كقوة جنوبية فاعلة ومؤثرة على موازين القوة والنفوذ، والتعامل معها بثقة تزيح دور قوى الشمال، التي لا زالت حتى يومنا هذا بمثابة الشريك الأساسي المهيمن على مصالح دول الإقليم والعالم، والشركات الدولية الكبرى المتعددة الجنسيات.
وذلك نتيجة لما أحدثته مستجدات الأعوام الأخيرة من متغيرات في كافة أرجاء المنطقة بشكلٍ عام، والتي ساهمت في توسيع هوة التباعد بين دول الجوار والقوى السياسية الشمالية المتنفذة من جهة، وقاربت بين مواقف وعلاقات تلك الدول مع القوى الجنوبية من جهة أخرى، وذلك نظراً للآتي:
1) جسَّد نضال شعب الجنوب من خلال مسيرة الحراك الجنوبي نهج سلمي حضاري للتعبير عن مطالبه، وحقه في استعادة دولته، رافضاً الانجرار إلى مربع العنف، رغم القوة المفرطة التي استخدمها نظام صنعاء لمواجهة فعاليات الاحتجاج السلمي للحراك الجنوبي، وأثبت الحراك بنهجه السلمي مدى توق شعب الجنوب لثقافة المدنية.
2) أثبت شعب الجنوب بموقفه الصلب ومشاركته الميدانية الفاعلة إلى جانب “دول التحالف العربي” في التصدي للمشروع الإيراني عبر جماعة الحوثي، والمشروع التركي عبر الإخوان المسلمين، الارتباط الوثيق الذي يجمع شعب الجنوب بجواره العربي عامة والخليجي خاصة. وسعيه الدؤوب لتعزيز علاقات التعاون والشراكة وتبادل المصالح مع دول العالم أجمع.
3) تبنى أبناء الجنوب موقف ثابت رافض للإرهاب بكافة أشكاله وأنواعه، وجسدوا ذلك ميدانياً حالما أتيح لهم بناء وحدات أمنية جنوبية أواخر 2015م، حققت خلال فترة وجيزة انتصارات مشهودة ساهمت في تقويض الجماعات الإرهابية وكبح نشاطها واستئصال شأفتها وتجفيف منابع ومعسكرات التطرف التي كانت تتمركز على أرض الجنوب. مما جعل منه اليوم شريكاً رئيسياً وفاعلاً ضمن دول التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب.
4) مثل تشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي نقلة نوعية في مسار التنظيم المؤسسي للحراك الجنوبي، وأثبت خلال فترة وجيزة توق شعب الجنوب لاستعادة دولة النظام والمؤسسات، جسّد ذلك من خلال سرعة تجاوبه مع متطلبات التنظيم الهيكلي للمجلس، والذي أنتج بنيانا مؤسسيا متناغما، يتسم بالمرونة والتكامل والديناميكية.
وبذلك فإن تلك الأفعال والوسائل التي انتهجها وجسدها شعب الجنوب تدحض زيف قوى الشمال وتبدد أكاذيبهم المضللة، إذ أثبت تجاوزه للفكر الشيوعي وارتباطه الوثيق بجواره العربي، وتوقه لدولة النظام والقانون والحياة المنية، ورفضه القاطع لكل أشكال وممارسات التطرف والإرهاب.
بالرغم من أن ذلك قد ساهم في تعرية وفضح كثير من أراجيف وإشاعات قوى الشمال وكشف زيفهم وهزم مشاريعهم التدميرية المصطنعة لعزل الجنوب عن العالم، وساهم بانحسارها إلى حدودها الدنيا، بيد أن كمية الضخ والفبركات المضللة كانت أكبر من أن يبددها ما نُفِذ حتى الآن، إذ لا زالت بعض القوى الإقليمية والغربية ترى الجنوب من ذات المنظار الذي صورته به قوى النفوذ الشمالي.
ثالثاً: عوامل تعزيز مكانة الجنوب
لا زال أمام قيادات الجنوب ونخبه السياسية والفكرية وفي مقدمتهم المجلس الانتقالي، رحلة شاقة تتطلب الكثير من العمل الدؤوب والحراك الفاعل على مختلف الصُعد والمستويات داخلياً وخارجياً، لإزالة توجسات الخارج، وخلق واقع مختلف يبدد تلك المخاوف والتوجسات فعلياً على أرض الواقع.
لذا فإن على الجنوبيين أن يستفيدوا من أخطاء الماضي، بعد أن أصبح لديهم مشروع شبه مكتمل ويعملوا على إزالة التحفظات وتعديل وإصلاح الجوانب الكفيلة بإنهاء الخلافات وإذابة الجليد بينهم.
فضلاً عن الإدراك بأن القوى الفاعلة إقليمياً ودولياً لن تستمع للأصوات المنفردة والمتشرذمة والمختلفة والأجنحة المتصدعة والهياكل السياسية الهشة، ولن يقبل بأي مشروع سياسي يفتقر للتنظيم المؤسسي والرؤية الواضحة المعالم، ولن يعترف إلا بعمل مؤسسي مكتمل الأركان بما يضمن رعاية مصالحهم، ويحقق الاستقرار المحلي، ويحفظ الأمن والسلم على الصعيدين الإقليمي والدولي.
وهذا الأمر لا يمكن له أن يتحقق لجماعة أو طرف أو أفراد، بل يتطلب وفاق وتكامل واصطفاف وطني جنوبي تتراص فيه صفوف أبناء الجنوب قاطبة بمختلف انتماءاتهم السياسية وانحدارهم الجغرافي من حوفٍ إلى باب المندب.
وفي حين تقع الآمال على المجلس الانتقالي، يوصي الباحث قيادة المجلس على الاهتمام بالآتي:
– تعزيز الشرعية الشعبية (تلمس هموم الناس ودعم ملفات الخدمات والأمن والتوعية).
– تعزيز الشرعية السياسية بانفتاح أكبر على (قوى الداخل – وفتح قنوات التواصل الخارجي).
– تعزيز الشرعية الثورية (الحفاظ على نسق الاحتجاج السلمي- وتعزيز دور المنظمات).
– التمكين والسيطرة الميدانية (إدارياً – أمنياً – عسكرياً – اقتصادياً).
– إشراك المجتمع وتعزيز دوره في صنع القرار.
– تمكين الشباب والمرأة من لعب دوراً فاعلاً في كافة مراكز صنع القرار بمختلف مستوياته.
– استيعاب النخب الفاعلة والتنقيب عن الكادر ذي الكفاءة والأمانة في مختلف المجالات.
– العمل بروح الفريق الواحد.
– انتهاج خطاب سياسي وإعلامي جنوبي جامع، حريص على تمثيل وحفظ مصالح كل أبناء الجنوب ورعاية حقوقهم وملامسة همومهم، معري لمساوئ أعداء الجنوب وكاشف لأحقادهم الدفينة، صادق مع حلفاء الجنوب وشركائه، جاذب لمزيدٍ من الحلفاء الإقليميين والدوليين.
– استلهام العبر والدروس من تجارب الماضي، وتجنب تكرار أخطاءها، وإزالة المسببات التي تحمل مؤشرات دالة على سلوك نفس الدرب الموصل إلى تكرار نفس الأخطاء.
لقد أصبح شعب الجنوب اليوم على أعتاب تحول تاريخي نحو استعادة وبناء دولته الجنوبية الفيدرالية الحرة المستقلة، بيد أن ذلك التحول يتطلب من كافة أبناء الجنوب عامة، وقياداته السياسية والعسكرية خاصة، إعلاء مصلحة الجنوب وشعبه عما دونه من مصالح شخصية أو فئوية؛ لكي نتمكن من إزالة آثار الضيم والظلم والمعاناة والقهر والإذلال الذي مر به شعبنا منذ ثلاثة عقود وحتى اليوم.