أساليبُ المماطلةِ والتأخيرِ والمراوغة التي تمارسُها حكومةُ الشرعية اليمنية حيال تنفيذ اتفاق الرياض الموقع مع المجلس الانتقالي الجنوبي، هي تصرفٌ طبيعيٌ لحالة "اللا حرب واللا سلم" التي اعتادتْ هذه الشرعيةُ العيشَ فيها وحكم البلاد بمقتضاها.
الشرعيةُ بتركيبتِها الأيدولوجية المتناقضة وطبيعتها الحزبية والقبلية المتصارعة وذات المشاريع المتباينة لا يمكنُ أن تعيشَ وتتعايشَ في وضعٍ من السلام والاستقرار، وفي المقابلِ لن تكونَ لديها القدرةُ على حسم أي صراعٍ عسكري أو سياسي؛ لهذا فالوضعُ الطبيعي لاستمرار هذه الشرعية -بما تمثّله من سلطاتٍ تنفيذيّة وجيشٍ يُسمّى زورا "وطني"- هو الفوضى والعبثُ والفساد المالي والإداري وحالةُ الانفلات الأمني ونشاط الجماعات الإرهابية وتوسّع رقعةِ الصراعات المناطقية وانتشار الميليشيات المسلحة التي تعززُ مراكزَ القوى القبلية والحزبية داخلَ نظامِ الشرعية ومؤسساتها المدنية والعسكرية.
اتفاقُ الرياض جاءَ ليهدد هذا الوضع الطبيعي للشرعية اليمنية.. جاء لانتشالِ الشرعية من بيئتها الفوضوية وتغيير بنيتها الميليشياوية ومحاولة مقاربة وإصلاح تركيبتها الأيدولوجية المتباينة؛ بيد أن هذا التوجّه من التحالف العربي هو في نظر الشرعية بمثابةِ إنقاذ سمكةٍ جريحة بإخراجها من الماء إلى اليابسة، بمعنى أن الاتفاقَ يحملُ بنوداً نبيلةً من شأنِها إنقاذُ الشرعية من حالة الضعف والهوان والفشل السياسي والعسكري، وإدخالها مرحلةً جديدة من الشراكة السياسية والتداول السلمي والتعايش والمصالحة وحل القضايا الشائكة بأدوات سياسية، لاسيما القضية الجنوبية ومطالب شعب الجنوب باستعادة دولته، وهو ما لا تستطيع هذه الشرعية ممارسته والعمل به؛ نظراً لغياب الفوضى وخسارة التفرّد بالقرار، إن هي التزمتْ فعلاً وعملتْ بمقتضى بنود الاتفاق وتراتيبه الزمنية.
خمسُ سنواتٍ من الحرب مع جماعة الحوثي ثم مع القوات الجنوبية كانت كافة للتحالف العربي لأن يتأكدَ ويتثبتَ من فشل الشرعية وعجزها عن تحقيق أي نصرٍ عسكري أو حسم صراع من هذا النوع، في المقابل كان الموقف الجنوبي يتعززُ ويسمو مع كل انتصارٍ تحققه المقاومةُ الجنوبية في الشمال والجنوب إذ كان آخر نصر هو كسر شوكة الشرعية ومخططاتها الإرهابية بعدن في أغسطس الماضي؛ ما دفع التحالف إلى الاعتراف بقوة الموقف الجنوبي عسكرياً وسياسياً، وكانت النتيجةُ اتفاقَ الرياض الذي جعل الجنوبَ نداً وشريكا أساسيا في مواجهة الشرعية، غير أن الشراكة التي ينظمُها اتفاق الرياض لن يُكتبَ لها النجاح مع "شرعية" لا تعيشُ إلا في منطقة رمادية بين الحرب والسلام، لعجزها وعدم قدرتها على التعايش مع أي من الوضعين.
في هكذا حال ليس أمامَ التحالف العربي إلا الزجُ بالشرعيةِ اليمنية في حربٍ خاطفة مع الطرف الجنوبي والتخلّص منها بفرض أمر واقع، أو استخدام العصا الغليظة وفرض حلٍ سياسي وواقعٍ جديد يعيدُ للجنوب كيانه المستقل بعيداً عن الفوضى؛ فذاك ما "يؤدّب" الشرعيةَ ويعيدُ أطرافَها إلى رشدهم ومراجعة حساباتهم لضمان بقاء الشمال -على الأقل- تحتَ شرعيتهم.. بغير كذا ستستمرُ الشرعيةُ اليمنية بالعرقلة والمماطلة وخلق مزيدٍ من الفوضى والصراع لضمان بقاء حالة "اللا سلم واللا حرب"، ومع هذا الوضع ستكون نتيجةُ اتفاق الرياض صراعاً، جنوبيا شماليا، قد يطول أمده إن ظلَّ التحالفُ متمسكاً بورقة الشرعية ومحافظا على بقائها واجهة.. حينها ستعززُ القناعات الجنوبية بأن لا انفصالَ ولا حق جنوبيا سيُعادُ من بوابة الشرعية.. وقتها ستدركُ كلُّ القوى الجنوبية في الانتقالي وخارجه، وحتى جنوبيي الشرعية، أن الجنوبَ، الأرض والوطن والهوية، تُنتزعُ ولا تُوهب، وأن مقوماتِ "الانتزاع" متوافرةٌ ومتأهبة وتحتاج فقط إلى قرار!!