"العرب" اللندنية...
روسيا ربحت في سوريا وتبحث عن انتصار دبلوماسي في اليمن
استطاعت روسيا أن تفرض ثقلها السياسي والإقليمي في نزاعات الشرق الأوسط من بوابة الأزمة السورية، وكشف تفوق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تحقيق معادلة استراتيجية لإنهاء الصراع في سوريا لصالح حليفه النظام السوري، نجاحه دبلوماسيا كمفاوض ووسيط، وعسكريا عبر تدخله الميداني المباشر.
وأشار محللون إلى أن نجاح الدور الروسي كوسيط دبلوماسي في محادثات أستانة حول سوريا منذ ديسمبر عام 2016، سيرشحه للعب دور دبلوماسي أكبر في أزمات مماثلة وأبرزها الملف اليمني، على غرار الملف الليبي والأزمة الخليجية، والتصعيد بين السعودية وإيران.
ورغم احتضان المملكة المتحدة لاجتماع خماسي الثلاثاء ناقش خلاله المجتمعون وهم، إلى جانب وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون، نظراؤه في السعودية والإمارات وسلطنة عمان، بالإضافة إلى نائب وزير الخارجية الأميركي للشؤون السياسية توماس شانون والمبعوث الدولي إلى اليمن إسماعيل ولد الشيخ أحمد، “تدابير لبناء الثقة والعودة إلى طاولة المفاوضات لبحث سبل حل الأزمة اليمنية، وإيصال المساعدات الإنسانية، إلا أن تعثر جهود الأمم المتحدة في إنهاء النزاع، وعجزها عن ردع خطر الحوثيين والتدخل الإيراني الذي تزايد مؤخرا واستهدف مؤخرا العاصمة السعودية الرياض عبر صاروخ باليستي، كل ذلك سيسمح لموسكو أن تقدم نفسها كوسيط جديد قادر على إيجاد حل يرضي كل الإطراف، انطلاقا من تجربتها في الأزمة السورية وعلاقتها مع طهران.
ويشهد اليمن منذ عام 2014 نزاعا داميا بين الحوثيين والقوات الحكومية، وسقطت العاصمة صنعاء في أيدي المتمردين في سبتمبر من العام نفسه. وشهد النزاع تصعيدا مع تدخل السعودية على رأس تحالف عسكري في مارس 2015 بعدما تمكن الحوثيون من السيطرة على مناطق واسعة في أفقر دول شبه الجزيرة العربية.
وبطلب من الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي يشن طيران التحالف غارات جوية مكثفة على مواقع الحوثيين وقوات صالح، كدعم للحكومة الشرعية المعترف بها دوليا، في محاولة لاستعادة المناطق والمحافظات التي سيطر عليها الحوثيون وحلفاؤهم الإيرانيون.
الدبلوماسية الروسية في اليمن
رغم أن صانعي السياسات الغربيين لم يولوا اهتماما يذكر لإمكانية تدخل دبلوماسي روسي في اليمن، إلا أن الصراع اليمني يحمل نقاطا مشتركة مع الأزمة السورية، تفضي إلى تدخل دبلوماسي روسي على شاكلة تدخلها في سوريا، ويمنح بذلك بوتين فرصة بأقل تكلفة لإبراز نفوذ موسكو في الشرق الأوسط.
وأشارت وسائل إعلام غربية إلى أن “التدخل الروسي في اليمن قد يجلب بعض الأمور الإيجابية فربما يرى التحالف الذي تقوده السعودية، ومعها الإمارات، في هذا التدخل فرصة للتأثير على روسيا لإقناع إيران بوقف تسليحها للحوثيين، وهو ما قد يؤدي إلى وقف السعودية حملاتها الجوية، لكن هذا يعتمد إلى حد كبير على توقف تهديد الغارات الحوثية والقذائف الباليستية للأمن القومي السعودي والخليجي”.
وأوضحت أنه “ومع وصول مفاوضات السلام بين مبعوث الأمم المتحدة إلى طريق مسدود، يبدو أن الموقف الاستراتيجي الروسي لحل حرب اليمن هو الخيار الآخر الوحيد”.
وينظر صانعو السياسات الروس إلى اليمن على أنه ملف مغر لتدخل دبلوماسي، ويعتقدون بأن السعودية مستعدة لإنهاء الأزمة اليمنية إذا توفرت شروط مقبولة تنهي الخطر الحوثي الذي ترعاه إيران.
وأكد وزير الخارجية السعودي عادل الجبير خلال زيارته الأخيرة إلى موسكو أن “المملكة تريد تسوية دبلوماسية في اليمن تجبر كل الأطراف على الامتثال لقرار مجلس الأمن الأممي عدد 2216”، وهو قرار صدر في أبريل 2015، دعا إلى إنهاء الحرب الأهلية اليمنية.
لكن لكي تتوصل الرياض إلى تسوية سياسية في اليمن، تحتاج إلى التنسيق مع وسيط إقليمي من بين القوى العظمى، بما أن الفاعلين الإقليميين مثل الكويت وعمان استنفدوا خياراتهم الدبلوماسية.
وهذا الفراغ الدبلوماسي في دور الوساطة في الملف اليمني، يوفر فرصا قوية لروسيا لتبرهن على براعتها الدبلوماسية عن طريق قدرتها على إيجاد الحل للصراع الدائر فيها، خاصة بعدما ثبتت نجاعتها كمفاوض في الملف السوري من جهة، وبسبب علاقتها مع طهران وقدرتها على التأثير في إيجاد صيغة تحد من دورها التخريبي في خليج عدن عبر الحوثيين، من جهة أخرى.
ومنذ بداية المواجهة العسكرية لخطر الحوثيين بزعامة سعودية في مارس 2015 حافظت موسكو على العلاقات مع كل الفاعلين السياسيين الكبار في اليمن، كما أعلنت عن دعمها لحل سلمي للحرب الأهلية اليمنية.
وأبقت روسيا على علاقات إيجابية مع الرياض، وللبرهنة على التزامها بحوار دبلوماسي يشمل الجميع، تبقي روسيا على سفارتها في العاصمة صنعاء الواقعة تحت سيطرة الحوثيين وقنصلية في عدن، وهي عاصمة حكومة عبدربه منصور هادي الممثل الشرعي للبلد والذي تدعمه السعودية وقوات التحالف العربي.
وعبر هذه القنوات الدبلوماسية تحاول روسيا أن تمارس دورها كمفاوض لكن بشكل “انتهازي”، فهو دور متقارب مع كل الأطراف، حيث توفر صيغ حلول تدعم به طموحها البراغماتي وتحقق به المزيد من المكاسب السياسية والعسكرية.
وتشاورت موسكو مع السعودية وإيران حول إجراءات تخص محاربة الإرهاب، كما احتضنت مفاوضات غير رسمية للتوصل إلى مخرج سياسي ينهي الأزمة في اليمن.
وفي يوليو الماضي رحبت موسكو بتعيين الدبلوماسي اليمني الموالي للشرعية اليمنية أحمد الوحيشي سفير اليمن لدى روسيا. كما ساعدت في سبتمبر الماضي حكومة هادي في توزيع أوراق نقدية يمنية في جنوب اليمن، لدفع أجور الموظفين الحكوميين اليمنيين.
كما حرصت من جهة ثانية على تهدئة القوى الشيعية الموالية لطهران في اليمن، واستطاعت باعتمادها مقاربة متوازنة تجاه الصراع في اليمن، أن تدعم وتقوي علاقتها مع مختلف الفصائل السياسية اليمنية بكل اتجاهاتها الأيديولوجية، وضمنت بذلك إمكانية أن تكون روسيا وسيطا ناجعا في الملف اليمني.
ولدى روسيا تاريخ طويل لفرض حضورها باليمن من بوابة مساعيها لتعزيز الاستقرار السياسي في البلاد خلال فترات من الصراعات الداخلية.
ففي عام 1986 اندلعت حرب أهلية بين الفصائل الماركسية في جنوب اليمن الموالي للاتحاد السوفييتي، وبالرغم من أن الاتحاد السوفييتي كان مشاركا في اندلاع الحرب الأهلية، حيث قام بتسليح الفصائل اليمنية خلال بداية الثمانينات، إلا أنه ساعد على استقرار اليمن عن طريق تدخل عسكري محدود وتعهد بتقديم مساعدات اقتصادية.
كما ضغط الاتحاد السوفييتي خلال المفاوضات الدبلوماسية لإعادة توحيد اليمن، حيث سهل خلال الثمانينات عملية توحيد اليمنيين، عن طريق التأثير على حلفائه الماركسيين المعتدلين، ما نجم عنه القبول بالتعامل الدبلوماسي مع الطرف السياسي المقابل ذي الغالبية الشيعية.
كما أقام الاتحاد السوفييتي علاقة دبلوماسية قوية مع زعيم اليمن الشمالي علي عبدالله صالح، وساهم هذا التحالف في رأب الصدع الطائفي شمال وجنوب اليمن.
وتكشف التدخلات الدبلوماسية السوفييتية السابقة في اليمن نجاعة الدور الروسي كوسيط ومفاوض، وحسب الخبير في العلاقات الروسية الشرق أوسطية، ألكسندر كوزنتسوف “تحظى روسيا باحترام كبير لدى الجيش اليمني بما أن موسكو قدمت مساعدات مكثفة للقوات المسلحة في اليمن الجنوبي خلال الحرب الباردة”.
كما تكشف التجربة الإيجابية التي مر بها صالح في التفاوض مع موسكو، حول إعادة توحيد اليمن، مواقفه الموالية لروسيا أثناء الأزمة اليمنية الحالية. وفي أغسطس 2016 طلب صالح رسميا المساعدة الروسية في إنهاء الحرب الأهلية اليمنية وعرض على روسيا النفاذ الكامل للمنشآت العسكرية اليمنية.
تعزيز القوة العسكرية
من شأن تدخل دبلوماسي روسي في اليمن أن يضفي كذلك الكثير من التبعات الإيجابية للأجندة الجيوسياسية الروسية في الشرق الأوسط، فمن منظور تكتيكي قصير المدى يمنح إنهاء الصراع في اليمن الفرصة لروسيا لترسيخ حضورها كقوة عسكرية كبرى على ضفاف البحر الأحمر.
وعبر ضباط عسكريون روس منذ العام 2009 عن رغبتهم في إنشاء قاعدة بحرية روسية على الأراضي اليمنية، وستزيد هذه القاعدة من نفاذ روسيا إلى خطوط الإبحار في البحر الأحمر، وستمنح موسكو موطئ قدم في مضيق باب المندب ذي الأهمية الاستراتيجية الكبرى لكونه يربط البحر الأحمر بخليج عدن.
وسيلاقي مقترح بناء القاعدة العسكرية الروسية بالتأكيد ترحيب وحماس السياسيين المحليين، بما أن القوات الحوثية المعادية للولايات المتحدة تهيمن على غالبية المدن الساحلية اليمنية على البحر الأحمر.
وبما أن الولايات المتحدة تمارس نفوذا كبيرا على الأنشطة التجارية التي تمر عبر مضيق باب المندب، إضافة إلى بناء الصين قاعدة بحرية في البحر الأحمر في جيبوتي، فإن من شأن إنشاء قاعدة عسكرية روسية في اليمن أن يمنح روسيا اعترافا إقليميا بها كقوة عظمى في الجزيرة العربية، مماثلة لواشنطن وبكين.
كما من شأن الاعتراف الدولي بالنفوذ الروسي في الجزيرة العربية، أن يدعم حضورها من الجانب السياسي كقوة دبلوماسية قادرة على طرح الحلول في أزمات الشرق الأوسط، ويدفع بمطامح روسيا المتعلقة بإنشاء منظومة أمنية إقليمية مشتركة.
ومن منظور استراتيجي بعيد المدى، من شأن تدخل دبلوماسي روسي ناجح في اليمن أن يؤكد نجاحها كمفاوض سياسي، لكن وعلى الرغم من أن سمعة روسيا كوسيط في الشرق الأوسط تحسنت بشكل مطرد منذ الصفقة الشهيرة التي عقدتها موسكو في عام 2003 مع الولايات المتحدة، التي تعنى بتدمير مخزونات الأسلحة الكيمياوية السورية، يرى منتقدو الكرملين في العالم العربي أن موسكو تستخدم دور الوساطة بشكل انتهازي لخدمة مصالحها الجيوسياسية الخاصة.
وتدعمت هذه الانتقادات بسبب إدارة موسكو أثناء محادثات أستانة للملف السوري، إذ رأى متابعون أن انسحاب المعارضة السورية من محادثات أستانة دليل على أن روسيا تستعمل عملية أستانة للسلام كمجرد واجهة دبلوماسية لإضفاء الشرعية على حليفها الرئيس السوري بشار الأسد.
لكن إذا تصرفت روسيا كوسيط محايد وفعال في اليمن سيتمكن بوتين من دحض الانتقادات الموجهة لسياسة موسكو في سوريا ويزيد من فرص فرض روسيا كحكم محايد بنزاعات المنطقة.
وبما أن موسكو عبرت عن اهتمامها بلعب دور الوساطة في الأزمة السياسية الليبية والأزمة الخليجية بعد اكتشاف تورط قطر في دعم الإرهاب وولائها لإيران، إضافة إلى التصعيد بين إيران والسعودية ورفض الرياض دور طهران التخريبي، فإن من شأن تدخل دبلوماسي روسي ناجح في اليمن على غرار الملف السوري، أن يقدمها كوسيط ناجح ويدفع بطموحها إلى أن تتحول إلى قوة عظمى لا غنى عنها في الشرق الأوسط.
كما يعتقد صانعو السياسات الروس بأن توسيع التدخل الدبلوماسي الروسي في اليمن سيساعد روسيا على تحسين صورتها في العالم العربي. وأشار السفير الروسي السابق لليمن بنيامين بوبوف في تصريحات صحافية إلى أن “دفع موسكو للحوار الدبلوماسي بين الفصائل اليمنية وتقديم المساعدات الإنسانية للمدنيين اليمنيين سيعززان المشاعر المؤيدة لروسيا في الشرق الأوسط”.
وتبرز نتائج استبيان الشباب العربي لسنة 2017 كيف بإمكان الوساطة الدبلوماسية الروسية أن تحسن نظرة الرأي العام إلى روسيا في العالم العربي.
وحسب الاستبيان، ينظر 21 بالمئة من الشباب العربي إلى روسيا على أنها الحليف الرئيس لبلادهم، وهذا المستوى من الدعم للتوافق مع موسكو تضاعف بنسبة 9 بالمئة في عام 2016، كما تجاوز بشكل ملحوظ التأييد للولايات المتحدة، الذي بلغت نسبته 17 بالمئة.
وعلى الرغم من أن صانعي السياسات ركزوا بالأساس على أماكن نزاع أخرى مرشحة لدور الوساطة الروسية مستقبلا، إلا أن العوامل الجيوسياسية في الشرق الأوسط تكشف أن اليمن هو مسرح النفوذ الجديد للنفوذ الروسي ومساحتها القادمة لفرض تدخلها الدبلوماسي.
وإذا تمكنت موسكو من تعزيز حضورها الدبلوماسي في اليمن، وحققت تقدما نحو إنهاء الحرب اليمنية، سيترسخ دور روسيا كقوة وساطة لا غنى عنها في الشرق الأوسط لسنوات قادمة.
ويرى روغر بويز في مقاله لصحيفة التايمز البريطانية أن “بوتين قد تفوق في دهائه السياسي في ما يسميه لعبته السياسية الشرق أوسطية على كل من الرئيسين الأميركيين باراك أوباما ودونالد ترامب عبر استخدام واقعية سياسية وخبرته في المنطقة”.
ويشير الكاتب إلى أن “الرئيس الروسي قد ربح سوريا وكل ما يحتاجه الآن أن يربح معركة السلام، ليقدم نفسه إلى بقية بلدان الشرق الأوسط بوصفه الرجل الذي لا يتخلى عن حلفائه في الضراء أو السراء وأنه سيصبح لاعبا معترفا به في المشهد العالمي”.