صحيفة دولية تتساءل: ما حقيقة الشعوب التي لا تحب رئيسها ثم تبكي مصرعه؟
مقتل الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح على أيدي الحوثيين يذكّر بإعدام الرئيس العراقي صدام حسين، وكذلك بمقتل الزعيم الليبي معمر القذافي في التعاطف مع الدكتاتور رغم أخطائه الجسام. هذا التعاطف لا يقتصر على أتباعه ومناصريه فحسب بل يتعداه إلى من كان يعارضه بالأمس القريب، فما سرّ هذه الدموع وما مردّها؟
ما الذي يجعل نخبا ثقافية وسياسية عارضت أنظمة قمعية ثم عادت تتعاطف مع رؤساء هذه الأنظمة في محنهم وتترحّم على أيامهم على خلفية ما يحدث من حالات الفوضى والانفلات الأمني وتنامي موجات العنف والتطرف والإرهاب التي سادت بلدان ما يعرف بالربيع العربي؟
كأن قدر شعوب عربية عديدة أن تمجّد الرؤساء المستبدين في حياتهم وفي مماتهم وتطلب منهم السماح والغفران، وكأن معارضة الظلم والفساد خطأ تاريخي وجب الاعتذار عنه. وهذا مازال يحدث مع بعض أصوات المعارضة السورية مثلا، والتي بدأت تعدّل وتغير من مواقفها من النظام.
وبالمقابل، فإن آراء كثيرة تنتقد هذا التراجع بشدة، وتعتبره نوعا من التخاذل والتخلي المجاني عن قيم الحرية التي طالما دافع أصحابها عنها كمعارضين شرسين لأنظمة أقل ما يقال عنها أنها لم تكن ديمقراطية. وترى فئة عريضة من الناس في تعاطف المعارض مع الدكتاتور بعد سجنه أو مقتله ضربا من البحث عن النجومية في الوقت الضائع. وكشف السقوط المدوي لأنظمة تمسك السلطة بشدة عن تباين في مواقف النخب والشعوب من الرؤساء الذين أسقطتهم الانتفاضات الجماهيرية بالتتابع مثل أحجار الدومينو.
وهذا التباين الحاد في الآراء والمشاعر إزاء الأنظمة المخلوعة، يتجلى في فريقين اثنين: الأول أبدى شعورا بالغبطة والانتصار لإرادة الجماهير التي أسقطت أنظمة الفساد والقمع واحتكار السلطة. والفريق الثاني عبر عن تشاؤمه من مستقبل هذه البلدان التي بدأت تعمها الفوضى ونزعات التعصب العشائري والطائفي والمناطقي مما أفقد الدولة هيبتها، الشيء الذي يدفع للترحّم على الأيام الخوالي والقول بقبول ما يعرف بـ”الدكتاتوريات الوطنية” وتفضيلها على مشاهد الانفلات وتنامي نزعات التطرف وظهور الميليشيات المسلحة كدليل واضح على ضعف الدولة بل على غيابها.
ثمة شيء آخر أكثر غموضا وتعقيدا في تفسير حالة التعاطف مع الدكتاتور بعد خلعه، هذا الأمر يتعلق بتعقيدات نفسية متصلة بتعاطف الضحية مع الجلاد أو ما يعرف عند الأطباء النفسانيين بـ“متلازمة أستوكهولم”، هذا المصطلح الذي يشير إلى تعاطف المختطفين مع خاطفيهم.
الدكتاتور يجعل ضحاياه تتعاطف معه إلى درجة المحبة والتعلق بشخصه والتغني بـ“مآثره” إلى حد المفاخرة به وتمجيده، وهي حالة تميز سيكولوجيا الإنسان المقهور.. وما أكثر المقهورين في العالم العربي. وتنطبق هذه الحالة على عدد كبير من الشعب الليبي بعد مقتل العقيد معمر القذافي، عندما قبض عليه في ذلك المشهد المؤثر، وهي نهاية أقل ما يقال عنها أنها تراجيدية، إذ اجتمعت فيها تناقضات ومشاعر متضاربة. لقد احتبست الدموع في مقل المؤيدين والمعارضين لنظام القذافي على حد سواء.
بكى مؤيدو معمر القذافي ومناصروه لهذه النهاية الموجعة والمهينة لزعيمهم الذي أحبوه في وقفاته وخطاباته المعهودة وهو يشير بقبضته ويتحدى قادة الدول العظمى بعبارات شعبية ومضحكة.
وبكى معارضو الزعيم الليبي في الداخل وفي المنفى أيضا، تأثرا بتلك اللحظات التي وصفت بالتاريخية، ذلك أنها لم تكن تخطر على بالهم. ولم يتخيلوا أن هذا الدكتاتور سينتهي بمثل هذه البساطة والسرعة، حتى أن أحد ألدّ معارضيه قد أدمعت عيناه وعلق بأنه لم يكن يتصور أن الله قد يمد في أنفاسه ليشاهد هذه النهاية التي لم يكن يتمناها أو يتخيلها حتى في أقصى حالات كرهه للدكتاتور الليبي. المشكلة أن العقلية العربية لم تعتد ولم تتشبع بثقافة المؤسسات وتحييد الدولة، فهي تربط الدولة بشخص الرئيس وتعتقد أن أي دولة يمكن أن تنتهي بموت أو قتل رئيسها وهذا الأمر سائد في الأنظمة الجمهورية أكثر من غيرها، ذلك أن شعوب هذه الأنظمة اعتادت في أغلبها على الدكتاتوريات العسكرية.
ويعتقد أغلبية الناس البسطاء في العالم العربي أن كرامتهم وكرامة بلدهم من كرامة الرئيس الحاكم حتى لو كان ظالما وفاسدا، لذلك تتأثر الشعوب العربية بمحاكمة شخص الرئيس أو حتى مجرد التعرض لسياسته من وسائل إعلام أجنبية وتعتبر ذلك إهانة للبلاد ككل وليس نقدا لسياسة رئيسها.
إهانة الحاكم إهانة للمحكوم
الطرق التي انتهى بها كل من صدام حسين ومعمر القذافي وعلي عبدالله صالح، كانت حقيقة مهينة لهؤلاء الثلاثة، مع مستويات مختلفة، ولا يتمناها معارض سوي وشريف لخصمه السياسي حتما، ومهما كانت الأسباب والدواعي، ذلك أن أبسط حقوق الإنسان تضمن لأي فرد، ومهما كانت جريمته، ضمان المحاكمة العادلة وحفظ كرامته الإنسانية.
هذا القول ينطبق أيضا، وبدرجة أقل، على الرئيسين السابقين لتونس ومصر، زين العابدين بن علي وحسني مبارك.
البصمات الإيرانية كانت واضحة أثناء إعدام صدام حسين، وكذلك عند مقتل علي عبدالله صالح. ومازال الناس يتذكرون تلك الشعارات والهتافات الطائفية الحاقدة على التلفزيون لحظة إعدام صدام حسين مما أكسبه تعاطفا حتى بين معارضيه. أما علي صالح الذي أعدمه الحوثيون فوصفته صحيفة إيرانية بـ“ألطاف إلهية خفية” وقالت صحيفة كيهان إن من وصفتهم بـ“الأعداء” يقومون أحيانا بخطوات غير محسوبة “لكنهم يقعون في الفخ وتفشل خططهم” على حد قولها، مضيفة أن دول التحالف كانت وراء إقناع صالح قيادة هذا التحرك في العاصمة بمواجهة الحوثيين وأن الحوثيين كانوا يراقبون تحركات صالح ووصول الأموال والأسلحة إليه.
إن مجرد وقوف إيران وراء مقتل الرئيسين، يجعل أنصارهما يتعاطفون معهما ويغفرون الأخطاء والتجاوزات الخطيرة التي صدرت عن الرجلين، ذلك أن النظام الإيراني، وبشهادة العالم، أكثر عنفا ودموية مما يمكن أن يوجه لصدام حسين وعلي صالح من إدانات.
أما عن القذافي فإننا وإذا علمنا بأن حلفاء الناتو قد ساهموا في هذا “التحرير” الذي قاد أو سهّل لمقتل الزعيم الليبي بتلك الطريقة المهينة، يجعل الكثير منا يتأثر لذلك المشهد الصادم ويدينه بشدة بدليل أن جيمس بيترس الخبير بالشؤون السياسية الأميركية يقول إنه من الواضح تماما أن الحرب ضد ليبيا كانت كلها، سواء استراتيجيا أو ماديا، حرب حلفاء الناتو، وإن تصوير هذا الخليط من أنصار الملكية والأصوليين الإسلاميين المنفيين إلى لندن وواشنطن وكذلك المنشقين عن معسكر القذافي لهذه الحرب بأنها ثورة تحرير هو محض دعاية كاذبة.
ويتابع بيترس: فمنذ البداية اعتمد المتمردون اعتمادا كليا على قوة الدعم العسكري والسياسي والدبلوماسي والإعلامي من جانب دول حلف شمال الأطلسي، ومن دون هذا الدعم ما كان للمحاصرين في بنغازي أن يستمروا حتى لشهر واحد، والتحليل المفصل للخصائص الرئيسية للعدوان على ليبيا يؤكد أن كل “التمرد” ليس سوى حرب شنها حلف شمال الأطلسي.
وبصرف النظر عن القراءة السياسية لأحداث مقتل الرؤساء الثلاثة، فإن الأوضاع في بلدان هؤلاء ليست أفضل مما كانت عليه أثناء حكمهم كما أن هذا التعاطف الإنساني مع هؤلاء لا يعني مقايضة الأمن بالديمقراطية والحريات، ثـم مـن قـال إن هـذه البلـدان تعيـش مناخا ديمقراطيا الآن خصوصا في بلد مثل اليمن، تحاول إيران احتلاله عن طريق الحوثيين الذين ينتهكون أبسط الحقوق ويشيعون القتل والدمار بدليل أنها قتلت حليفها بالأمس القريب حين استشعرت بأنه قد عاد إليه رشده وبدأ يفكر بشكل صحيح.
المتعاطفون مع الرؤساء المقتولين لهم من الحجج والمبررات الموضوعية ما يبرر لهم آراءهم ويدعمها، فالرئيس اليمني القتيل هو بطل الوحدة اليمنية. والكل يتذكر الفترة التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي في العام 1990 وكيف تحرك الرئيس صالح ووحد اليمن وانتصر مرة أخرى عام 1994 على مشاعر الانفصال وعاد اليمن بفضله دولة واحدة وشعبا موحدا، هذا بالإضافة إلى حالة الاستقرار الاقتصادي التي ميزت حكمه رغم أخطائه الكثيرة ولعل أخطرها هو الانصياع للأوامر الإيرانية ومعاداته للسياسة السعودية.
أما عن صدام حسين فيحق للمتعاطفين معه أن يتحدثوا عن الكثير من المزايا التي شهدها عهده رغم غياب الديمقراطية. ولسائل أن يسأل: أين هذه الديمقراطية التي كان الكثير من المعارضة العراقية يمنون بها النفس، فالعراق يعاني اليوم من خلل أمني واقتصادي واجتماعي بالإضافة إلى التمترس الطائفي الذي سببه التدخل الإيراني.
وفي ليبيا لم يحدث أي تحسن بل ازدادت الأمور تفاقما وانتشرت الجريمة المبنية على الأسس القبلية والمناطقية وازداد القتل والاضطهاد وتشرد أكثر من نصف الشعب الليبي في دول الجوار، في حين كانت ليبيا تأوي كل فقراء ومشردي العرب والمسلمين تطابقا مع ما جاء في بيان القذافي عند اعتلائه سدة الحكم حين خاطب شعبه في البيان الأول قائلا “…هاتوا أيديكم، وافتحوا قلوبكم، وانسوا أحقادكم وقفوا صفا واحدا ضد عدو الآمة العربية عدو الإسلام عدو الإنسانية، الذي أحرق مقدساتنا وحطم شرفنا، وهكذا سنبني مجدا ونحيي تراثا ونثأر لكرامة جرحت وحق اغتصب”.
القطط عادة ما تحب خناقيها
“القط يحب خنّاقه” كما يقول المثل العامي. وغالبية شعوبنا التي حكمتها أنظمة تصف نفسها بالجمهورية على وجه التحديد، أدمنت حكم الدكتاتوريات بدرجات متفاوتة خصوصا العسكرية منها حتى صار من العسير أن تتخلى عنها بسرعة، وتسير بسلاسة في اتجاه حكم تعددي يحترم إرادة الفرد ويعمل على رفاهيته والارتقاء بأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
أمر طبيعي أن يبكي المنتفعون والانتهازيون والمستضعفون والخانعون أولياء نعمتهم ويحنّون إلى أزمنة الأحضان الدافئة وأنظمة الفساد التي توزع الحصص والامتيازات على قدر الموالاة والتفاني في خدمتها.
الطيور التي ولدت في الأقفاص لا تتعلم الطيران بسهولة، إنها اعتادت على الأمان الكاذب والرفاهية المزيفة، ولا تعلم أنها أسيرة ورهينة لمالكيها ومختطفيها. ولا تدرك هذه الطيور الخارجة لتوها أن الأقفاص قد تحمي من القطط والجوارح لكنها لا تؤمّن لها الكرامة وما قيمة الحياة دون كرامة؟
انتشار التطرف والإرهاب بعد ثورات الربيع العربي وخلع وسقوط ومقتل رؤساء عرب، لا يعني أن هذه الأنظمة كانت تقف بالمرصاد في وجه هذه الآفات، بل بالعكس، إذ تبين أن أنظمة كانت حليفة مع هؤلاء وتتعامل معهم خفية لأجل مصالح متبادلة كما أن التطرف كان موجودا لكنه كان مختفيا في غياب الحريات كما هو الحال في ليبيا وتونس وغيرهما.
التعاطف الإنساني مع الرؤساء المقتولين لا يعفيهم من مسؤولياتهم في دفع الأمور نحو الأسوأ حتى أوصلتهم عنجهيتهم إلى هذه النهـايات المهينة، فلماذا لا نجد هـذه النهـايات المشينة لدى الحكام الغربيين في الأنظمة الديمقراطية؟ ولماذا مازالت تعاد سيناريوهات نهايات هتلر وموسوليني وتشاوشسكو وبينوشيه، عند العرب دون غيرهم؟
إنها حتمية نهاية الدكتاتوريات وفق منطق وجدلية التاريخ، ولا بد من المرور بهذه المرحلة وتحمل الفترات الانتقالية التي لا بد منها كي نقطع نحو الضفة الأخرى التي تمثل التعددية والحياة السياسية الصحية كما فعلت شعوب غربية كثيرة.
نظرة سريعة إلى سياسات الرؤساء العرب المقتـولين، تكشف لنا عـن حتميـة هـذه النهايات دون اللجوء إلى مشاعر التشفي، فمـن لم يمت بمكائد النظام الإيراني ومؤامراته مات بغيرها كالعقيـد القـذافي الـذي انحاز لإيـران في حربها ضد العراق، وساعدها بالأسلحة ونصح العرب في قمم كثيرة بعدم معاداة إيران رغم أن الخميني قد رفض استقباله مهنئا بنجاح ما يعرف بالثورة الإسلامية.
وعلي عبدالله صالح لقى حتفه على يد حلفائه الحوثيين، الذراع العسكرية لإيران في اليمن، واضطربت تركيبة المجتمع ونشأت في خلال حكم الرئيس صالح طبقات مختلفة بفعل غياب القانون واستبداله بالعادات والأعراف القبلية.
وأصبح من النادر جدا تنفيذ القصاص في القاتل بسبب الفساد المستشري في القضاء الذي تقف من وراءه التدخلات المستمرة من قبل أركان الحكم في اليمن وأصبح القضاة قبل أن يصدروا أي حكم شرعي في قضية ما يستفسرون عن أقارب المتهم وماهيتهم، وفي عهد الرئيس علي عبدالله صالح أيضا تفاقمت ظاهرة الثـأر رغـم الوعـود الرنـانة التي أطلقها الرئيس صالح من أجل القضاء عليها في أكثر من مناسبة، لكن ينقص تلك الوعود الجدية والحزم والقرارات الجادة، وفي عهد الرئيس صالح انتشرت ظاهرة حمل السلاح بين المواطنين وأصبح معدل امتلاك الفرد في اليمن للسلاح ما يساوي ثلاث قطع بينها الرشاشات والقذائف وصواريخ أرض أرض.
واختفى القانون من الحياة اليومية وصار الغني يقتات من مال الفقير والقوي يأكل الضعيف، وصار الحال في المجتمع اليمني كحال الغابة لا رادع فيها لأي ممارسات وأبرزها السطو المنظـم على أراضي المـواطنين.
الثقافة العربية السائدة تشخصن الدولة، وتذيب وتدغم مؤسساتها في شخص الرئيس، وبناء على ذلك تصبح الدولة كائنا يرضى ويغضب ويتعـارك وينتقم ويهـرب ويلقى عليه القبض ويعدم أو يقتل فيصبح الشعب من بعده دون دولة.. يا لبؤس هذه الثقافة وفقرها أمام الأمم ذات التقاليد العريقة في فصل السلطات وسيادة القانون وتحييد الدولة.
الشعوب التي تبكي الدكتاتور وتندبه، هي في الواقع شعوب تبحث عن دكتاتور بديل، تحني له ظهورها وتمنحه حناجرها وترخي رقابها لأنها تعلمت العيش جاثمة على ركبها. فلا خير في شعوب تمنح مصيرها ومستقبل أبنائها لشخص معتوه يمارس عليها عقده ويحكمها برابط شبه مقدس ثم يموت أو يقتل فيبكيه الجميع بحرقة كما في حال نظام كوريا الشمالية مثلا.