أياما فوق جبال يافع

يافع بليات السيل...يافع بليات الجنوب !!

د.عبده يحيى الدباني

الحلقة الأولى

يافع وما أدراك ما يافع... ؟ كيف لي أن أكتب عنها وفيها وانا منها وإليها وإن لم أكن من سكانها او من منتسبيها جغرافيا. ولكنني هنا سأروي لكم قصة سفرنا يوما إلى يافع والبقاء هنالك خمسة أيام في سفرة نضالية توعوية جنوبية ، في رمضان عام ١٤٣٤هجرية الموافق عام ٢٠١٣م خرجنا من عدن ظهرا ونحن صائمون في طريقنا إلى يافع، كنا ثلاثة ورابعنا السائق الذي لا أتذكر اسمه : العقيد حمود السعدي رحمه الله تعالى، والدكتور زيد قاسم ثابت ومحدثكم هذا .

كان الجو حارا وكان السائق يسرع بعض السرعة لأن المسافة طويلة ونريد أن نصل إلى بلدة (رصد) قبل الفطور ببعض الوقت، كانت تلك الرحلة من أجمل وأفضل رحلاتي النضالية التوعوية نظرا لزمانها ومكانها ولأنها استغرقت ما يقرب من أسبوع .

تركنا عدن خلفنا تحت وهج الشمس وهي عطشى صائمة، مررنا النقطة العسكرية التي بعد منطقة الرباط على طريق لحج، وهي النقطة الرئيسة على أبواب عدن وكان معنا في قدام السيارة علم الجنوب صغير الحجم فأبى العسكري في النقطة إلا أن يأخذه منا ، وإلا فلا عبور لنا ، كأنه أدرك اننا ذاهبون في مهمة فأراد عرقلتنا ، وان ندخل في مشكلة مع أفراد النقطة من العسكر الشماليين الذين كانوا يستفزون من علم ولا يزالون ،فكأنهم يرون نصرنا وهزيمتهم مرسومين فيه.

رفيقنا حمود السعدي رحمه الله رفض تسليم العلم ، وكنت انا متحفزا ولكن لم اتدخل بعد في الجدل ،وكان السائق يرفض تسليم العلم ولكن بنوع من المرونة والملاطفة ، اما الدكتور زيد فقد قال للسائق اعطهم العلم فلسنا في معركة ، أمامنا سفر طويل ولدينا عمل مهم. أخذ العسكري العلم الصغير في حجمة الكبير في رمزيته وتركه جانبا، ولم يحاول الإساءة لهذا الرمز الجنوبي الذي حقق الجنوبيون خطوات كبيرة تحت ظله ،على طريق استعادة دولتهم المستقلة.

وهكذا انطلقنا نحو يافع من غير علم بيد أنه موجود في أعماقنا، بحيث لايستطيع أحد أن ينتزعه .

كان العطش يصحب رحلتنا وكنا نتحدث طوال الطريق عن مسيرة الحراك الجنوبي ، وعن المكونات والقيادات واللقاءات التي كانت تعقد في سبيل توحيد الحامل السياسي للقضية الجنوبية ، وكيف كانت تخفق في تحقيق هدفها .

كان في تلك الأيام بالذات خلاف بين الرئيس البيض والزعيم باعوم وقد بدأ ذلك الاختلاف يصل إلى القواعد والجماهير وكنا نحن نحترم الزعيمين المناضلين كليهما، وولاؤنا المطلق لله تعالى ثم للجنوب وقضيته العادلة، وليس للأشخاص مهما كانوا وهذا معيار النظر إلى الأشخاص، أي الولاء للجنوب كما سنذكر لاحقا.

عبرنا الحبيلين وحبيل جبر والعسكرية ، كانت الأرض جدباء غبراء وكان رفيقنا حمود يتعجب من ذلك الجدب الشديد، وما أن بدأنا نصعد نحو طريق وطن في يهر وبعدها نتجه يسارا صعودا لجبال معربان ، حتى وجدنا آثار المطر، والزرع يغطي المدرجات، وبدأت تهب علينا نسائم منعشة تخفف من ظمانا. رغم قسوة الجبال وشدة تضاريسها فإن البركة تتخللها، فسبحان الله تعالى.

استرحنا قليلأ تحت شجرة السدر في وسط طريق معربان، اااه كم أحب هذه الشجرة لقد ارتبطت في حياتنا ارتباط الأب والأم والمعلم والطفولة العذبة وأيام الرعي، وغيرها .

مابرح الأخ حمود يتحدث إلينا ، ودائما أحاديثه حازمة وحاسمة مثل شخصيته، لم أعرفه إلا في ذلك اليوم، ولكن الرفقة النضالية من أقوى الروابط الإنسانية فلديها القدرة على تذويب أي اختلاف ثقافي أو مناطقي أو تعليمي أو شخصي أو عدم معرفة سابقة او غيره ، حمود رجل مناضل أحاسيسه النضالية فوق جلده ، لهذا سريعا ما يهتز ويثور ويستفز ، لأي باطل أو خطأ يراه أمامه بحق القضية أو بحق الجنوب أو بأي مجال كان.

لا زلت اذكره وهو يحدثنا عن مسجد الفردوس الذي يقع في حي السنافر في عدن ، لقد كان حمود من مرتاديه بل من القائمين عليه ففي فجر أحد الأيام تسلل إلى إذن حمود صوت المؤذن مثل كل يوم ، ولكن المؤذن ذلك اليوم ، قبل أن يكمل الأذان قال حي على خير العمل... حي على خير العمل !! فانتفض حمود مثل المجنون واندفع نحو المسجد لا يلوي على شيء في طلب صاحب ذلك الصوت، يا قاتل يا مقتول، ولكنه كان قد فر، اذن فهرب، رمتني بدائها وانسلت، وإلا فان حمودا كان سيريه ماهو خير العمل !! هكذا هم يستفزون الجنوبيين حتى في شعائرهم ومذهبهم السني الواضح المعتدل، وإلا كيف تأذن في عدن، وتردد هذه الجملة التي لا وجود لها في الجنوب كله، تلك الجملة نفسها التي أخرجت الغزو الزيدي من الجنوب ذات يوم من أقصى حضرموت إلى ما وراء الضالع شمالا ، لقد أشعلت ثورة جنوبية في تاريخ صراعنا مع هؤلاء
الغزاة ، وادت إلى انكسارهم وطردهم من أرض الجنوب الطاهرة .

وهكذا ظل حمود رحمة الله يترقب ان يجد ذلك الرجل، ولكنه كان قد فر إلى غير عودة إلى فردوسه المفقود .

كانت السيارة الصالون تتسلق جبال معربان بهدوء وبصعوبة، ولم أكن غريبا ولا مستغربا من مثل تلك الطريق الجبيلة الوعرة ، فقد عرفتها في حالمين من قبل ولعلها في حالمين أشد صعوبة ووعورة .

وصلنا القمة ودخلنا قرى السعدي هناك عند القمة الفاصل بين محافظة لحج ومحافظة أبين بينما القرية واحدة حول القمة

كانت الطريق أسهل وبدأنا ننحدر إلى الأسفل ونمر بقرى مختلفة قاصدين ( رصد ) مركز مديرة رصد نفسها ، وأمامنا على اليسار يقف جبل القارة التاريخي العتيد رمزاً من رموز يافع والجنوب كلها ، شامخا وقورا  كأنه يكتنز حكمة يافع وتاريخها عبر السنين .

سبقنا أذان المغرب إلى رصد بساعة تقربيا ، لم أتوقع أن نصل بهذه السرعة إلى هذا المكان البعيد، كان السائق متمرساً كمثل السائقين في القرى الجبيلة . استرحنا قليلا في الفندق الصغير الوحيد في رصد، ذلك الملمح الحضري الجميل ، وحين حان وقت الإفطار، كنا في منزل أحد أبناء المنطقة ، مع لفيف من أبنائها الناشطين ، وهناك تناولنا فطورا يافعيا كريما ، وتناولنا ورقيات من قات يافع الذي كنت أخاف أن استكثر منه ، لأنه يتركك يومين أو ثلاثة تنام صاحياً وتصحى نائماً ، يخرجك عن طورك حقا حين تتناوله لأول مرة او تتناوله بين زمن وآخر، أما الذين يتناولونه كل يوم فإن الأمر عندهم اعتيادي .

وفي وسط السوق بعد صلاة العشاء اجتمع الناس لإحياء الفعالية الرمضانية الثقافية التي جئنا من أجلها وكنا نحن ضيوفها والمتحدثين فيها إلى جانب الزملاء في قيادة الحراك هناك . كان الحضور لافتاً وكذلك هي يافع حين تناديك تكرمك وتحتفي بك فضلاً عن الحماس المنقطع النظير للجنوب وقضيته العادلة وحراكه السلمي المتصاعد .

تحدثت في الحاضرين حديثاً بين الخطابة والمحاضرة فاجأتهم بموضوع جديد ، قلت لهم انتهى زمن الشكاء والبكاء من الاحتلال الشمالي لم نأت إلى هنا لنشكي او لنبكي او نردد كلاماً حماسياً وشعارات فلا بد من حضور العقل والوعي والتفكير فيما علينا أن نقوم به تجاه قضيتنا .

اقتصرت على موضوع الولاء في مسيرتنا التحررية وكان ذلك جديدا حينها في خطاب الحراك السلمي الجنوبي،ولكن الواقع كان محتاجا إلى هذه الحلقة المهمة، وهي أن الولاء لله تعالى ثم للجنوب وطنا وقضية وشعبا ، ولي في ذلك مقال منشور اثار صدى واسعا ، قد ألحقه بهذا السرد عن تلك الرحلة الحبيبة إلى يافع الأحب والأجل والأجمل

إن الولاء لله تعالى ثم للجنوب الحبيب يعني بإيجاز عدم التعصب للحزب أو للمنطقة او للقبيلة أو للمصلحة الذاتية أو لهذا الزعيم أو ذاك أو لغير ذلك، على حساب قضية شعب الجنوب الجمعية، فالشرك في الولاء الوطني والسياسي يضر بها، وضربنا لهم الأمثلة من الواقع والتاريخ .
كانت ليلة عامره بالمحبة، ليلة جنوبية مشرقة بأنوار رمضان المبارك وقد تحدث المتحدثون من قبلي ومن بعدي ومنهم زميلاي العقيد حمود والدكتور زيد مثلما قدم بعض من حضر الفعالية بعض الأسئلة والمداخلات.
وإلى حلقة قادمة بعون الله تعالى.

د عبده يحيى الدباني.


مقالات الكاتب