فريق أوكسفورد بقيادة سارة غيلبرت يسعى لإنقاذ البشرية من كورونا
تحملت سارة غيلبرت، أستاذة علم اللقاحات وفريقها في جامعة أوكسفورد، الرحلة الشاقة الهادفة إلى تطوير لقاح سيساعد كما يؤمل في توجيه البشرية صوب الخروج من جائحة فيروس كورنا المستجد (كوفيد-19) محوطين بعزلة عن الفوضى والتشويش اللذين أخلا بتوازن العالم، فاهتموا بصبر وجد بالمهمة التي بين أيديهم.
وفي ضوء تحديات ضخمة، لم يكن ثمة مجال للراحة أو التلهي. وبحسب غيلبرت، "حين لا تكون المهمة ضرورية، يجري إيقافها، وحين يكون المرء في وضع يتطلب القيام بأشياء قد يكون لها أثر مهم، تتوجب على المرء مواصلة العمل".
ويستند حديثها إلى التجربة أيضاً، إذ إنها خبيرة بارزة في علم اللقاحات، وتملك تجربة 25 سنة في تطوير لقاحات ضد الإنفلونزا ومسببات الأمراض الفيروسية الناشئة، إضافة إلى كونها أماً لتوأم ثلاثي. وفعلاً، فبالرغم من قسوة العام الحالي التي أضنتها وحرمتها النوم، فإنها تعرف جيداً مجالها.
ووفق غيلبرت (58 سنة)، "لقد تدربت على تلك الأمور، فأنا أم لثلاثة توائم". وتضيف أن أولادها جميعاً باتوا الآن ملتحقين بجامعات. "إذا حصل المرء على أربع ساعات من النوم في الليل، ولديه توأم ثلاثي فذلك جيد جداً. لقد مررت بهذه الحال".
ومع ذلك، جلب ظهور "سارس-كوف-2" الفيروس المسؤول عن الإصابة بـ "كوفيد-19"، تحديات جديدة وأسئلة جديدة وأموراً غامضة جديدة توجب على غيلبرت وزملائها أن يكشفوها. وعلى غرار كثيرين ممن يعملون في مجال مهنتها حالياً، وجدت غيلبرت نفسها مدفوعة إلى الواجهة في جبهة جديدة.
إذ لم يحدث يوماً التوصل إلى تطوير لقاح بشري ضد أي من الفيروسات المنتمية إلى عائلة كورونا. وتشير غيلبرت إلى وجود لقاحين بيطريين متكافئين ضد نوعين من فيروسات كورونا، أحدهما يعطي مناعة ضد كورونا الذي يصيب الأبقار، والآخر يوازيه في التأثير بالنسبة للطيور، وفي المقابل لا يمكن إنكار الطبيعة غير المسبوقة للتحدي الذي تواجهه غيلبرت.
ومع ذلك، فإنها تشدد على أنه "لم تبرز شكوك في شأن ما نحاول فعله" منذ أن تولى الفريق التابع لـ "معهد جينر" في جامعة أوكسفورد العمل للمرة الأولى، ولم يتهدد مساره بالعرقلة إلا في لحظات قليلة.
ومن المسلم به أن "عقبات تقنية برزت بالتأكيد"، وفي إحدى المرات عندما جرت محاولة إنتاج دفعة ثانية من اللقاح في منشأة التصنيع التابعة لجامعة أوكسفورد باستخدام عملية جديدة للتنقية "سارت الأمور في شكل خاطئ"، ولحسن الحظ مكّن عقد مع شركة مصنعة في إيطاليا، كانت بالفعل تصنع دفعة أخرى من اللقاح نفسه، من ألا يتابع ذلك المسار المغلوط سيره إلى النهاية.
وفي سياق متصل، بعدما انتقل فريق غيلبرت بسلاسة قدر الإمكان من التجارب قبل السريرية إلى المرحلة الأولى فالمرحلة الثانية، وليبلغ الآن المرحلة الثالثة التي يجري فيها قياس فاعلية اللقاح في الحد من انتقال العدوى على مستوى المجتمعات المحلية، بات فريق غيلبرت في طريق ثابت ومستمر في إنتاج لقاحه المسمى "إيه زد دي 1222" بحلول نهاية العام. وفي الوقت نفسه، بدأت "آسترا زينيكا" التي تتشارك مع جامعة أوكسفورد لتصنيع اللقاح في إنتاج جرعات منه، مع التزامها بصنع ملياري جرعة مع حلول الصيف المقبل. وبحسب غيلبرت فإن "الأمور تجري في شكل جيد جداً على صعيد التوسع في الإنتاج".
وبطبيعة الحال، طرحت أسئلة عن سرعة تحرك غيلبرت وغيرها من علماء اللقاحات، وفي العادة يستغرق تطوير لقاح واختباره والموافقة عليه سنوات عدّة، ومع ذلك كثفت عمليات كهذه كي تنجز في غضون أشهر، وأعلن أحد زملاء غيلبرت هذا الأسبوع أن جامعة أوكسفورد قد تضع البيانات الخاصة بتجربتها أمام الجهات التنظيمية بحلول نهاية العام.
بالرغم من ذلك، تصر غيلبرت على أن أياً من مراحل اكتشاف وصنع اللقاح لم تحرق، وإذا حصل اللقاح على الموافقة فسيكون قد تجاوز بنجاح الضوابط والتوازنات اللازمة كلها، "لقد تمكنا من إيجاد طرق لتوفير الوقت عند خوض العمليات العادية كلها، إذ عملنا مع الجهات التنظيمية واللجنة الأخلاقية لتقليل الوقت الذي يستغرقه الحصول على الموافقة، لكن الموافقة تشكل موافقة كاملة، ولا تفوت أي جانب"، وفق كلماتها.
وتشير إلى "إجراءات مسرعة" ساعدت في خفض أوقات الانتظار غير الضرورية. وبحسب رأيها فإنه "عادة لا يمكننا أن نذكر التجربة ونطلب من كل شخص أن يفكر في المشاركة، بل الموافقة على التجربة بالكامل، وهذه المرة سُمح لنا بالإعلان عن التجارب والاتصال بالناس". وفحص الأفراد الذين أعربوا عن اهتمامهم وأُعدوا للتلقيح، ولم يحصل ذلك إلا بعد الحصول على الموافقة، لذلك حصلنا على دفعة من الناس المستعدين للتلقيح، ولا يحدث ذلك في العادة".
وتوضح غيلبرت أيضاً أن فريقها كان مستعداً جيداً لهذه اللحظة قبل وقت طويل من ظهور "كوفيد-19"، فقبل انتشار الوباء، طور مختبرها تكنولوجيا لصنع لقاحات ضد فيروسات قوية، واستخدم هذا النهج فيروساً يصيب الشمبانزي خصوصاً ويحدث فيها نوعًا شائعاً من الأنفلونزا يسمى "الفيروس الغُدّي" Adenovirus، بعد تعديله وراثياً كي يصير قادراً على نقل عناصر معينة من فيروس ما مضر بالبشر، بهدف تحفيز استجابة مناعية ضرورية لهم.
وغطت أعمالها فيروسات تشمل تلك التي تسبب حميات "نيباه" و"لاسا" و"الوادي المتصدع" Nipah, Lassa and Rift Valley fever، وكذلك وربما الأكثر أهمية بينها "متلازمة الشرق الأوسط التنفسية" وهي مرض قاتل يأتي من أحد فيروسات كورونا. واستطرادً، ترى غيلبرت إن الإطار كان موجوداً فعلاً، ما مكن فريقها العلمي من العمل على "سارس-كوف-2".
وأضافت، "عندما بدأت أرى تقارير عن تفشي المرض في الصين في بداية العام رأيت المرض وفكرت هل سيكون هذا مرضاً ينبغي أن نصنع لقاحاً له؟" وجاء تفكيري ضمن التكنولوجيا الخاصة بنا. وجرت أعمال كثيرة في التخطيط كي نتمكن قبل حلول هذا العام من صنع لقاح لوباء، وأنجزت بحوث كثيرة نستطيع الآن الاستفادة منها، ولأننا نستعد منذ وقت طويل، تمكنا لهذا السبب من أن نعمل بسرعة".
في المقابل، لم ترغب في أن تحرق المراحل، بل تصر غيلبرت بتواضع على أن "سرعتنا كانت أقل من قدرتنا"، وتضيف، "لم تكن الاستعدادات كلها كاملة ولم يكن الوضع مثالياً، لكننا قمنا بأفضل ما في وسعنا".
ومن المسائل التي يمكن أن تعرقل نظرياً الجهود الرامية إلى تلقيح البشر، ظهور طفرات جديدة في "سارس-كوف-2". ففي حال حديثة لرجل من هونغ كونغ ثبتت إصابته للمرة الثانية، أثبت العلماء أنه أصيب بسلالتين مختلفتين من مسبب المرض، ووجد تحليل أوثق 24 فارقاً بين الجينوم الفيروسي الأول والثاني.
ولم يكن ثمة ما يشير إلى أن النسخة الجديدة للفيروس تملك قوة مرضية أكبر أو مقدرة أكثر في نشر العدوى، فبالرغم من كل شيء تشير البيانات الحديثة إلى أن مسبب المرض أصبح أقل فتكاً، لكن من المستحيل معرفة كيف ستتفاعل نسخه المستقبلية مع جسم الإنسان.
ومع ذلك، فإن غيلبرت واثقة من أن "سارس-كوف-2" لن يتطور إلى درجة تجعل لقاحها غير مجد، وتوضح ذلك الأمر، "تنشأ الطفرات بمعدل منخفض جداً في فيروسات كورونا، ومع كل الطفرات التي عثر عليها حتى الآن، ليس ثمة ما يشير إلى أن الأجسام المضادة المحيّدة (بمعنى إنها تلك التي تعمل على موازنة تأثير تلك التي ينتجها الفيروس) تستمر في قدرتها على تحيّدها، ولا أعتقد بأننا سنرى خلال العام المقبل الفيروس يتغير في تركيبته ويتحور إلى مستوى يمنع اللقاحات من النجاح في التصدي له. قد يتحور كثيراً على مدى سنتين أو ثلاث سنوات، ما يخفض إلى حد ما فاعلية اللقاح الذي يصنع ضد الفيروس المنتشر راهناً، ومن ثم قد نقرر أن تغيير التسلسل في اللقاح سيكون شيئاً جيداً".
وفي المقابل، لا ينسحب هذا المستوى من التفاؤل تماماً على طول عمر الاستجابة المناعية التي أثارها "إيه زد دي 1222". فبالرغم من أن نتائج التجارب الأولية أظهرت أن اللقاح يدرب الجهاز المناعي للبشر على إنتاج أجسام مضادة وخلايا دم بيضاء قادرة على مكافحة الفيروس، ثمة مخاوف من أن تتلاشى هذه الحماية مع مرور الوقت، ما يسمح بإعادة انتشار "سارس-كوف-2" بين الكتل السكانية.
وعلى نحو مماثل، من غير المعروف حالياً ما الذي يشكل الحد الأدنى في مستوى المناعة للوصول إلى الحصانة ضد الفيروس الذي سيجري تجاوزه، إذ لا يوجد مقياس موحد معيارياً لإجراء مقارنات معه.
وفي الصدد ذاته، تشير غيلبرت إلى أنها "وفريق العمل لا نعرف مستوى الاستجابة المناعية التي نحتاج إليها لحماية أي شخص من الفيروس في المقام الأول، ثمة تأخر في تطوير المقايسات، وعادة يجري توحيد المقايسات قبل بدء المرحلة الثالثة من التجارب حتى نتمكن من قياس الاستجابات المناعية، لكننا لسنا متأكدين مما نقيسه".
وأضافت، "إذا ثبت أن لقاحاً ما فاعل فسيرغب مطورو اللقاحات جميعاً في مقارنة الاستجابة المناعية التي يحصلون عليها بلقاحاتهم ومعرفة إذا كانت الاستجابة استقرت أو ازدادت أو نقصت، لكن ليست لدينا المقايسات التي تمكننا من المقارنة والتي تعطينا هذه المعلومات في هذه المرحلة. وبمجرد أن نعرف مستوى الحد الأدنى من رد الفعل المناعي الكفيل بتوفير الحماية، يمكننا بعد ذلك متابعة قياس الاستجابة المناعية عبر أخذ عينات من الدم، ونرى الوقت الذي تستغرقه الأجسام المناعية المضادة كي تنخفض إلى ما دون هذا المستوى من الاستجابة".
وفي الوقت الراهن، تواصل غيلبرت مراقبة التقدم المحرز في تجارب المرحلة الثالثة التي تجري في المملكة المتحدة والولايات المتحدة والبرازيل وجنوب أفريقيا، بينما تقود البحوث الجارية في جامعة أوكسفورد. ويتمثل القرار الكبير التالي الذي يجب أن تتخذه مع زملائها في تحديد موعد "إماطة اللثام عن التجربة"، على حد تعبير العاملين في القطاع.
وفي تلك المرحلة، سيتولى إحصائيون في جامعة أوكسفورد احتساب عدد المشاركين الذين أثبتت الفحوص إصابتهم بـ "كوفيد-19"، وبمجرد أن يعتقد الباحثون أن لديهم ما يكفي من الحالات سيكشف عن الأفراد الذين حقنوا باللقاح، وأولئك الذين تلقوا لقاحاً ضد فيروس التهاب السحايا، بمعنى أن من يتلقى اللقاح لم يكن يعرف أي اللقاحين دخل جسمه. وبالتالي فستكون عملية اكتشاف فاعلية اللقاح أسرع عندما يكون معدل انتقال المرض أعلى في المجتمع المحلي الذي يأتي منه الأفراد الذين يتلقون اللقاح تجريبياً.
ووفق توضيح غيلبرت، "كلما ازدادت الحالات التي يحصل عليها المرء قبل التدقيق، يزداد تأكده من مدى فاعلية اللقاح، سواء أكانت منخفضة أو مرتفعة. وينتقل المرء من القدرة على القول نعم، يبدو أن اللقاح يؤتي نتيجة لكننا لا نعرف حقاً مقدارها، إلى الدقة الشديدة حول فاعلية اللقاح والقول إنها تبلغ 70 في المئة مثلاً، لكن من غير المسموح للمرء أن يستمر في التدقيق، فهذا ما تنص عليه القواعد".
وبطرق كثيرة يبدو توقيت موعد "إماطة اللثام" نوعاً من المراهنة، لاسيما مع الاعتماد الشديد على هذه التجربة. وبالرغم من أن الوقت أساسي يحمل إعلان النتائج قبل الأوان إمكان ألا تشعر الجهات التنظيمية بالرضا عن النتائج، وفق غيلبرت. وتضيف، "إن قرار إماطة اللثام قرار صعب، ولم يتخذ بعد في تجربتنا، وثمة منفعة في المعرفة المبكرة بأن اللقاح ينجح أو لا ينجح، والحصول من ثم على ثقة أكبر في المستوى الفعلي من الفاعلية".
وبالرغم من جهودها في إدارة التوقعات، ثمة ثقة عالية في اللقاح، سواء أكان ذلك صواباً أو خطأً. في ذلك السياق، قدمت المفوضية الأوروبية 336 مليون يورو (401 مليون دولار) قبل أيام كدفعة أولى لتأمين ما لا يقل عن 300 مليون جرعة من اللقاح، وانضمت بذلك إلى دول كالولايات المتحدة وألمانيا والهند في تقديم طلبات مسبقة.
وغيلبرت نفسها واثقة من أن لقاحها، إلى جانب لقاحات أخرى قيد التطوير، ستثبت في نهاية المطاف فاعليتها. وبحسب غيلبرت، "في ضوء الفرضيات الأولى ثمة احتمال جيد جداً لأن تتوفر لدينا لقاحات متعددة ضد فيروس كورونا" إذا أنجزت جامعة أوكسفورد تلك المهمة، "وستنجح لقاحات أخرى أيضاً"، وفق غيلبرت.
ولا شك في أن إرث هذه الجائحة سيكون عميقاً، إذ سيغير نسيج مجتمعنا لسنوات مقبلة. فقد جرى تعلم دروس، أو لم يجر تعلمها في حال بعض البلدان، وجرى تذكير البشرية بهشاشتها في مواجهة الطبيعة. في المقابل، تشير غيلبرت إلى أن هناك دائماً مزيداً من العمل الذي يتعين النهوض به، ومزيداً من التقدم الذي يتعين إحرازه في هذا المجال.
وتقول "آمل في أن يكون من الواضح الآن للناس في شكل عام أن اللقاحات تستحق الاستثمار فيها، فقد كان من الصعب الحصول على الاستثمار لصنع لقاحات جديدة ضد مسببات الأمراض المتفشية لأن ثمة دائماً شيئاً آخر يجب إنفاق المال عليه، لكننا رأينا الآن الأثر المدمر الذي يمكن أن يحدثه فيروس، وآمل أن نتمكن من تصحيح الميزان".