أطباء بلا حدود : لا يمكن الحديث عن حياة طبيعية في اليمن

الجمعة 30 مارس 2018 23:11:10
testus -US

 غادر جون بيسيلنِك، رئيس بعثة أطباء بلا حدود في اليمن، منصبه الأخير، وشَهد كيف أثّر النزاع على كل جوانب الحياة ابتداء من النظام الصحي، وحتى الاقتصاد، وقال في حوار أجراه نصه كالتالي:

كيف تصف اليمن بعد عملك فيها؟

حتى قبل الحرب كانت اليمن إحدى أفقر الدول في الشرق الأوسط وأضعفها. أما الآن فالحرب مندلعة في كل مكان فيها، وتؤثر على كل جوانب الحياة. لقد دُمرت المدن والقرى. وأغلب الناس لم يستلموا أجورهم منذ عام ونصف. إننا نرى الكثير من حالات سوء التغذية وهناك انعدام للأمن الغذائي، لأن الأمر لا يتعلق بوفرة الطعام فقط، وإنما بالمال أيضاً. هناك سلع تَباع في السوق، لكن الناس لا تستطيع شراءها. إن الوضع كارثي

هل هناك أيّ من جوانب الحياة الطبيعية في اليمن؟

لا، لا يمكنك الحديث عن حياة طبيعية في اليمن. فالناس لا يجدون وقتاً للتعافي من الأزمة السابقة حتى تحلّ بهم الأزمات التالية. إن الوضع هناك عبارة عن أزمة فوق أزمة. فهناك النزاع المسلح؛ والوضع الاقتصادي الصعب، حيث لا تُدفع أجور العاملين في القطاع الصحي؛ وهناك حالات تفشي الكوليرا والخنّاق؛ ثم الحصار الذي يمنع الإمدادات الحيوية من دخول البلاد. كل شيء مرتبط ببعضه ويأتي إثر مشاكل سابقة، لكن شيئاً لا يُحل. ولذلك كلّه أثر مريع على الناس. وأما اليمنيون فهم عالقون في هذه الأزمة متعددة المستويات.

وإحدى هذه المستويات هي النظام الصحي المتهالك...

كل شيء مترابط. فالعُاملون في القطاع الصحي لا يستلمون رواتبهم؛ لذلك فهم يتركون البلاد أو يتوقفون عن العمل، مما يتسبب بانهيار النظام الصحي الذي يعاني أصلاً بسبب نقص الإمدادات والمخزونات. ولأن أجور الناس لا تُدفع، فهم بلا مال، وبالتالي يعجزون عن الدفع مقابل الرعاية الصحية الخاصة، ويُضطرون للجوء إلى الخدمات المجانية، كتلك التي توفرها منظمة أطباء بلا حدود. ولكن العيادات المجانية ممتلئة ولا تستطيع الاستجابة للاحتياجات الهائلة. مثلاً، عند وصولي إلى البلاد، كان مستشفى رعاية الأمومة التابع لمنظمة أطباء بلا حدود يستقبل 200 حالة ولادة في الشهر الواحد. ولكننا في إحدى الأشهر استقبلنا 1000 حالة، من بينهم أناس مشوا تسع ساعات للوصول إلينا. لكن العيادة أُنشأت لتساعد على إنجاب 500 طفل في الشهر الواحد. لذلك اضطررنا لإغلاق أبوابنا لأننا لم يبق لدينا أي مُتسع.

ما هي آثار انهيار النظام الصحي في اليمن؟

إن حالات تفشي الكوليرا والخنّاق هي آثار هذا الانهيار. فلو كان لديك نظام صحي قوي، لاستطعت أن تعزل حالات الكوليرا أو الخنّاق حال حدوثها، كي تتجنب انتشار هذه الأمراض. لكن الكوليرا مرض مستوطن في اليمن، مما يعني أنه يرجع كل عدة سنوات؛ لكن ولأن النظام الصحي الحالي لا يستطيع استيعاب هذه الحالات، فإن منظمة أطباء بلا حدود قد اضطُرت لإنشاء سبعة مراكز علاجية. وقد قمنا بمعالجة 100 ألف حالة العام الماضي. في أوروبا، يتلقى الأطفال تطعيماً ضد الخنّاق كي يزول المرض تماماً. لكن في اليمن، ومع انهيار النظام الصحي، فإن الناس لا يتلقون المطاعيم، وبالتالي يصابون بمثل هذه الأمراض.

ما هو أثر نشاط منظمة أطباء بلا حدود في اليمن؟

اليمن هي إحدى أكبر بعثات منظمة أطباء بلا حدود في العالم. لكن هذا، بالطبع، لا يشير إلى أمر جيد، فذلك يعني أن حجم الاحتياجات هائل. إن لنا أثر كبير في اليمن، ببساطة لأننا المنظمة الوحيدة التي توفر الرعاية الصحية في أغلب المناطق التي نعمل فيها. لكن حجم الاحتياجات يكون أحياناً كبيراً جداً لدرجة أننا نُضطر للقيام ببعض القرارات الصعبة. بالنسبة لي، هذا هو التحدي الأساسي: حجم الاحتياجات. أيها يجب الاستجابة له، أين يجب الذهاب، كيف يمكن التنسيق مع السلطات الصحية أو المنظمات الأخرى في اليمن...

هل تحسن الوضع خلال فترة عملك هناك؟

لم أرَ الوضع إلا من الداخل بالطبع، ومن الداخل لا تبدو الأمور مبشرة. لقد كان الوضع صعباً جداً عندما وصلت، وما يزال كذلك. إنه مزيج من صعوبة الوصول إلى المُحتاجين وازدياد حجم الاحتياجات الطبية، بالإضافة إلى ضعف استجابة المنظمات الأخرى.

إننا كمنظمة أطباء بلا حدود لسنا هناك لنجد حلاً سياسياً أو لإنهاء النزاع، وإنما لتوفير الرعاية الصحية.

وفي العامين الأخيرين قمنا بمعالجة الكثير من المرضى، لكن الأرقام لا تتناقص. وحسب تجربتنا، فإن النزاع لا تخف وتيرته أيضاً. لقد شهدنا حدوث قفزات كبيرة في حجم العنف الحاصل في مختلف أجزاء البلاد. كما أننا نبعد مسافة أقل من كيلومتر عن خط المواجهة في بعض المناطق أيضاً. وقد أصيبت أربعة من مرافقنا بغارات جوية. إحداها نزل بالقرب من مرفق صحي في شهر ديسمبر الماضي، وتسبب بتدمير جزء من غرفة الطوارئ. كما كان علينا البقاء في القبو لمدة أسبوعين خلال نوفمبر عام 2017، عندما تصاعدت وتيرة القتال في صنعاء.

أتظن أن اليمن أزمة منسية؟

 

لا، لا أظن ذلك. بالنسبة لي، الأزمة المنسية هي الحادثة في جمهورية أفريقيا الوسطى أو في الصومال، فهذه لا تُذكر في وسائل الإعلام. أما اليمن فقد ذكرها الإعلام كثيراً، وهي على الأجندة السياسية الدولية. إن الاهتمام موجود، لكن هذا لوحده لا يمثل حلاً. فاليمن يحتاج إلى حوار سياسي للتخلص من هذه الحلقة المفرغة.

 

أهناك جانب من الأزمة تظن أن وسائل الإعلام لم تقم بتغطيته بشكل ملائم؟

ربما كان أثر الحرب على الشعب الجانب الناقص من القصة. فوسائل الإعلام تتحدث عن مغادرة منظمات للبلاد بالرغم من استمرار النزاع الدائر فيها، ولكل شيء أثر على اليمنيين، إلا أن وسائل الإعلام لا تشرح آثار ذلك. ولا تقوم بالحديث عن عدم دفع الأجور للناس، وعن عدم حصولهم على الأدوية أو المطاعيم. لقد رفع الحصار على الموانئ اليمنية الأسعار وتسبب بحدوث نقص في كمية الأطعمة في المنازل، بل والماء أيضاً، مما أثّر بدوره على الظروف الصحية. لكن كل شيء يبدو متمحوراً حول السياسة. فما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للناس العاديين؟

كيف يتمكن اليمنيون من البقاء على قيد الحياة؟

يعيش الناس في اليمن لأن ليس لديهم أي خيارات أخرى. فلا يمكنهم اللجوء، وهم مجبرون على العيش في مثل هذه الظروف. يحاول الناس الذهاب إلى العمل أو إلى السوق للحصول على بعض الطعام، دون أن يتأذوا على الطريق. كما يبيع البعض سياراتهم أو حليهم ليحصلوا على بعض المال... لكن لا يمكنك بيع هذه الأشياء إلا مرة واحدة. وهناك شبكة أمان اجتماعي غير رسمية، تتمثل بمساعدة الناس لبعضهم البعض. لكن عيش حياة كريمة أمر صعب جداً.

 

والأمر كذلك بالنسبة لطاقمنا المحلي. فهم يخافون على الدوام مما قد يحدث لهم أو لعائلاتهم في المنزل بينما هم يعملون.

والناس في اليمن خائفون على الدوام لأن القتال قد يبدأ في أي لحظة. لقد سألت أحد زملائي ذات مرة حول كيفية تعاطيه مع النزاع، فأجابني قائلاً، «إننا نطأطئ رأسنا ونستمر فحسب. ليس هناك خيار آخر.» إنهم أناس نقوم بدعمهم، وهم أحياناً طاقمنا بنفس الوقت. إن مغادرة هؤلاء اليمنيين الرائعين الذين عملت معهم لم يكن أمراً هيناً بالمرة.

 

أهناك حادثة معينة تذكرها؟

إنني أذكر بشكل خاص الأطفال. كان هناك جندي صغير التقينا به على أحد حواجز التفتيش.

 وقد بدا صلباً بسلاحه ووجهه العابس. لكنه بعد عدة أيام وصل إلى المستشفى، فقد أصيب بطلقة في ساقه وكان يبكي. وكان بإمكانك أن ترى أنه، لو مهما تغيرت الظروف، لم يزل مجرد طفل صغير.

 

الذكريات السعيدة مرتبطة بالمرضى على الدوام. عندما يصل طفل ما، وهو على وشك مفارقة الحياة بسبب الكوليرا، ليغادر وقد استعاد صحته وعافيته بعد أيام قليلة.

هناك أيضاً اللحظات الحزينة عندما ترى أمهات ينجبن أطفالاً تعرف أنهم سيكونون حبيسي اليمن. وأنهم سيبقون عالقون هناك.

المصدر: اليوم السابع