صحيفة دولية : مهدي المشاط رئيس حوثي بدرجة مدير مكتب
من ينظر إلى زعيم الحوثيين عبدالملك الحوثي، وإلى حصّته من الكاريزما، والطريقة التي يدير بها الصراع في اليمن، يمكنه أن يشكل تصورا سريعا ودقيقا لحجم القيادات التي يمكن أن تتفرع عن زعامته تلك.
وبقدر ما مثل مقتل القيادي الحوثي البارز ورئيس ما يسمى “المجلس السياسي الأعلى” للانقلابيين في صنعاء، صالح علي الصماد ضربة بالغة الخطورة على الصعيد النفسي والمعنوي على أنصار الجماعة الحوثية، من المفترض أن يخلّف مصرعه إثر غارة جوية للتحالف العربي الخميس 19 أبريل 2018 في الحديدة، انعكاسا بالغا على تماسك الحوثيين، في ظل حالة التوازنات الهشة التي تخفي في طياتها صراعا مستعرا بين أجنحة متضاربة ومضطربة في أعلى الهرم القيادي للجماعة العقائدية والسلالية.
في وقت أخذت فيه خسائر الحوثيين تتضاعف، على مختلف الأصعدة مع مرور كل يوم إضافي من رحلة الحرب والجنون التي اندلعت شراراتها الأولى في مطلع العام 2004 من إحدى الكهوف في منطقة “مران” الوعرة بمحافظة صعدة. ويبدو أنها ستنتهي هناك، وفقا لآخر قراءة للتطورات الميدانية التي أضحت على مسافة بضعة كيلومترات فقط من ذات المنطقة التي شهدت ميلاد ونهوض الجماعة الحوثية.
بلغته القاسية وملامحه الحادة التي لا تخطئها عين، ظهر الشاب الحوثي المندفع مهدي المشاط للمرة الأولى من على منصة “البرلمان” في صنعاء ليؤدي “اليمين الدستورية” كرئيس للمجلس السياسي الأعلى خلفا للصماد. فيما كان قلة من أعضاء البرلمان اليمني المختطف يجلسون بذهول واستسلام، وهم يستمعون لكلمة الرجل الذي نقلته تحولات اليمن الشرسة خلال سنوات قليلة ليتحول من متمرد حوثي مطارد في مسقط رأسه بجبال حيدان شمالي اليمن من قبل السلطة، إلى مدير افتراضي لمكتب زعيم الجماعة الحوثية الذي ظل يتقاسم معه ذات الكهف خلال حروب صعدة، لينتهي به المطاف في أبريل من العام 2018 كرئيس لمناطق الانقلاب بدرجة مدير مكتب.
أفضل الخيارات السيئة
هدّد المشاط كعادته وأطلق الكثير من العبارات العابرة للحدود، فيما كان يكافح بصعوبة للسيطرة على انفعالاته التي اشتهر بها للظهور بصورة تليق برئيس افتراضي اعتلى للتو سدّة الانقلاب، بعد أيام قليلة من مصرع سلفه الذي قتلته غارة جوية، وحولته إلى رئيس انقلابي سابق لم يحظ بأي تعزية من قبل زعماء العالم، بما في ذلك حلفاء وداعمي الجماعة الحوثية في طهران ودمشق وبيروت الذين لم يقتنعوا بأن من قتل كان يشبه الرئيس لا من قريب ولا من بعيد.
توعد المشاط في أول كلمة له بما اسماها “حرب مفتوحة” ضد قوات التحالف العربي والجيش الوطني اليمني. وقال في محاولة لتدشين ما يبدو أنها مرحلة تصعيد جديد في عمر الجماعة الحوثية إن “التحالف والقوات الحكومية أراداها حربًا مفتوحة، وعليهما تحمل عواقب ما أرادا”، لكنه ترك الباب مواربا كذلك أمام مصير قد يشبه مصير سلفه مضيفا أن “دم الرئيس الشهيد الصماد هو دم المشاط ودم كل واحد في هذا الشعب”.
يقول العديد من العارفين بالشأن اليمني إن صالح الصماد لم يكن حالة مثالية في جماعته ليتبوأ صدارة المشهد الظاهري في معسكر الانقلاب في صنعاء، ولكنه كان أفضل الخيارات السيئة في ظل وسط مشحون بالصراعات الخفية والارتباطات الخارجية والداخلية المشحونة بذهنيات طائفية وسلالية معقدة.
جاء الصماد من وسط مجتمع قبلي من “بني معاذ” بمحافظة صعدة أقصى شمال اليمن، من منطقة عادة ما تصنّف بأنها واقعة بالكامل تحت تأثير الثقافة المذهبية التي نشرها الحوثيون وأسلافهم، في مجتمع منعزل لم تصل إليه بشكل حقيقي أي من الثورات السياسية أو الفكرية الناشئة في المركز اليمني. ولم يشهد أي عملية تحديث من خارج نطاق البيئة التقليدية التي ظلت لقرون تحت وطأة التأثير الفكري للون فكري واحد.
التحق بالقتال إلى جانب الحوثيين في الحروب التي تلت مقتل مؤسس الجماعة حسين بدرالدين الحوثي في سبتمبر 2004 بعد أن توسع نطاق المواجهات واستطاع الحوثيون أن يصنعوا من مقتل زعيمهم “مظلومية” أخرى تمكنوا عبرها من حشد المزيد من المقاتلين القبليين الذين امتزجت مشاعرهم بين الولاء الديني والحمية القبلية وكان الصماد واحدا من هؤلاء، وقد قذف به الولاء المطلق للفكر الحوثي ليصبح بعد ذلك أحد أبرز الوجوه القبلية في معقل الحوثيين بصعدة التي تتبوأ مكانة مهمة في السلم التنظيمي والسياسي للجماعة التي أرادت أن تجتذب المزيد من أبناء القبائل وتتظاهر برغبتها في الخروج من الصورة النمطية التي تكرست في الذهنية الشعبية كحركة دينية قائمة على الأفضلية السلالية والحق الإلهي في الحكم.
وبالرغم من إيمان الصماد المطلق بالتصورات الدينية القائمة على أفضلية السلالة التي ينتمي إليها الحوثي والتي عبر عنها ذات مرة بالقول إنه سيوصي بدفن جثمانه في الطريق المؤدي إلى ضريح حسين بدرالدين الحوثي في “مران”، إلا أن خصائص غير واضحة المعالم مستمدة من بيئته القبلية ذاتها، جعلته أكثر براغماتية ومرونة في التعامل مع العديد من المواقف السياسية إلى جانب احتفاظه بطابع الولاء الفكري والنفسي للحوثية كفكرة وقيادة وعقيدة.
وقد وقع الاختيار عليه ليكون خليفة لابن منطقته رئيس المكتب السياسي للحوثيين الأسبق صالح هبرة، حيث تم اختياره في هذا المنصب في مطلع العام 2012 كما تم فرض تعيينه بعد الانقلاب الحوثي في سبتمبر 2014 كمستشار سياسي للرئيس اليمني عبدربه منصور هادي، بعد ثلاثة أيام فقط من اجتياح الحوثيين للعاصمة صنعاء وكان الهدف من ذلك تمرير العديد من القرارات الصعبة من خلاله وفرضها على الرئيس هادي، الأمر الذي باء بالفشل.
في بيئة اجتماعية شبيهة للغاية بتلك التي نشأ فيها الصماد، ترعرع المشاط في إحدى العائلات الريفية في محافظة صعدة، غير أن ظروفا مختلفة جعلته أكثر قربا من مركز صنع القرار في الجماعة الحوثية وواحدا من المنتمين للدائرة الضيقة المحيطة بزعيم الجماعة عبدالملك الحوثي بعد مقتل شقيقه الأكبر حسين الحوثي في سبتمبر 2004، حيث أحاط حينها بالقائد الحوثي الجديد ثلة من شباب صعدة المتحمسين لمناصرته منهم بعض من رفقاء طفولته وصباه، من بينهم المشاط الذي رافق عبدالملك الحوثي في أحلك وأصعب المراحل التي مر بها الحوثيون، وشارفوا خلالها على الانهيار وتنقل معه من كهف إلى آخر، خلال الحروب التالية لمقتل مؤسس الجماعة.
وهو ما منحه ميزة إضافية وثقة مضاعفة من قبل زعيم الجماعة الذي عينه مديرا لمكتبه ليصبح همزة الوصل بينه وبين مختلف قيادات الجماعة المتفرقين في الجبال والوديان، في ظل ظروف غاية في التعقيد أمنيا وعسكريا، حيث كانت الطائرات في تلك المرحلة تترصد الكهوف والجبال التي يمكن أن يتحصّن فيها الحوثي.
ملفات ساخنة
أمسك المشاط بالعديد من الملفات الساخنة والتي كانت تحتاج إلى اندفاعه المعهود وتطبيقه الحرفي لتوجيهات وإرادة زعيم الجماعة وكانت أولى تلك المهام خارج إطار حروب صعدة الست توليه مهمة إخلاء بلدة “دماج” في صعدة من آخر مظاهر التنوع الثقافي والمذهبي، من خلال إشرافه على طرد وتهجير السلفيين في المنطقة، بعد قصف وحصار استمر بين عامي 2013 و2014.
وقد توسعت المهام التي كلف بها المشاط بعد ذلك عبر توليه إدارة الملف السياسي الذي كان يديره بصلاحيات شاملة ممنوحة له من زعيم الجماعة. اتضح ذلك من خلال دور المشاط في المفاوضات بين الحكومة اليمنية والحوثيين قبيل اجتياح صنعاء وتوقيعه على وثيقة اتفاق السلم والشراكة في دار الرئاسة بصنعاء ممثلا لجماعته التي كانت تحاصر القصر آنذاك.
كما مثّل المشاط الحوثيين في كافة المفاوضات السياسية مع القوى والمكونات اليمنية التي أشرف عليها المبعوث الأممي الأسبق جمال بن عمرو بعد الانقلاب. وفي جميع تلك المحطات من الحوار السياسي، عرف عن الرجل نزقه السياسي، واحتدامه في النقاش مع الأطراف الأخرى، ما أدى في إحدى تلك الجولات إلى انسحاب ممثلي حزبين يمنيين بعد أن قالا إنهما تلقيا تهديدا مباشرا منه.
نسبت الكثير من التهديدات والرسائل غير الدبلوماسية للمشاط، وتشتهر في هذا السياق مقولة شهيرة لعراب الدبلوماسية اليمنية عبدالكريم الإرياني الذي شاءت الظروف أن يجلس في إحدى تلك المفاوضات في أواخر عمره وجها لوجه أمام المشاط، خرج منها بمقولته الشهيرة التي قال فيها “من غضب الله عليه أمد في عمره حتى يحاور مهدي المشاط” في تعبير صريح عن سوء وفداحة الانطباع الذي تولد في مخيلة سياسي ودبلوماسي مخضرم قاد خلال مسيرته الطويلة المئات من جولات المفاوضات السرية والعلنية مع أطراف داخلية وخارجية، ولكنه لم يصادف مثل هذا النموذج من المفاوضين من قبل.
وعقب إحكام الحوثيين سيطرتهم على العاصمة صنعاء، تحولت طبيعة عمل المشاط من مدير لمكتب عبدالملك الحوثي نتيجة ما تقتضيه ضرورة بقائه في صنعاء كمندوب سامي لزعيم الحركة وممثل لإرادته التي يديرها من خلف ستار سميك.
وقد تعمقت ثقة الحوثي بالمشاط حتى منحه صلاحيات غير مسبوقة لإدارة ملف الحوار السياسي داخليا وخارجيا، من خلال مشاركته في مفاوضات السلام اليمنية بين الحكومة والحوثيين التي رعتها الأمم المتحدة في الكويت منتصف العام 2016، وهي المفاوضات التي عمل المشاط على التعبير عن مواقفه المتصلبة إزاءها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي التي حوّلها إلى منصة لتوجيه الاتهامات غير المسبوقة لجميع الأطراف، بما في ذلك المبعوث الأممي السابق إلى اليمن إسماعيل ولد الشيخ أحمد الذي اتهمه بالعمالة والارتهان لما وصفها بدول العدوان.
بين مرحلتين
استطاع الصماد بمرونته السياسية غير المألوفة عند الجماعة الحوثية أن يتزعم تيارا ضعيفا داخل جماعته، سعى من خلاله إلى تكوين جبهة داخليه لمواجهة الحكومة الشرعية والتحالف العربي، وقد اقتضى ذلك أن يخطط بمشاركة القيادي الآخر في الجماعة يوسف الفيشي لعقد اتفاق شراكة مع الرئيس السابق علي عبدالله صالح وحزبه، تتضمن إنشاء حكومة ومجلس سياسي أعلى لإدارة المناطق الخاضعة لسيطرة الانقلاب.
نجح ذلك المسعى في إعلان ما تسمى “حكومة الإنقاذ الوطني” برئاسة عبدالعزيز بن حبتور، وكذا تأسيس المجلس السياسي الأعلى برئاسة الصماد، وهي مؤسسات تم تشكيلها بالمناصفة في محاولة لإنهاء حالة الازدواج والصراع داخل أروقة المعسكر الانقلابي.
وقد جوبهت خطوات الصماد والفيشي بمعارضة واسعة من جناح الصقور في الجماعة الحوثية الذي لم يكن يؤمن بجدوى الحلول السياسية، منساقا بحالة غضب ثوري وأيديولوجي. وكان محمد علي الحوثي وأبوعلي الحاكم ومعهما المشاط في مقدمة القيادات الحوثية التي سعت لإفشال الاتفاق بين صالح والحوثي، ودفعت لاحقا باتجاه إنهاء أي دور سياسي لحزب المؤتمر، ولو تطلب الأمر تصفية علي عبدالله صالح نفسه.
وقد تعزز موقف تيار الصقور في إحدى اجتماعات المجلس السياسي الأعلى في مايو من العام 2017 عندما خسر الصماد أحد أبرز حلفائه بعد إجبار الفيشي على الاستقالة من المجلس، ليحل محله المشاط، ما اعتبر بداية لمرحلة المواجهات التي تصاعدت فيها الخلافات بين الرئيس اليمني الراحل وحزبه وانتهت بإقدام الحوثيين على قتل رئيس حزب المؤتمر والأمين العام للحزب عارف الزوكا في الرابع من سبتمبر 2017 وهي المرحلة التي اضطلع فيها الصماد بدور جديد واقعي ولكنه غير أخلاقي.
حيث عمل على احتواء قيادات حزب المؤتمر في صنعاء والإبقاء على الحزب كشريك شكلي بعد مقتل صالح، ولكن بعض المراقبين يعتقدون أن خلفه المشاط لن يبقي طويلا على حالة الشراكة الصورية تلك مع بقايا حزب المؤتمر الواقعين تحت الحصار الحوثي في صنعاء، انطلاقا من معرفة سابقة بطريقة تفكيره السياسي ورصيده الطويل مع فكرة الصدمات.
صحافي يمني