كوريا : القوة شرط للتفاهم

د . ياسين سعيد نعمان

منذ أشهر قليلة مضت كانت كوريا ،بجنوبها وشمالها ،بؤرة توتر غاية في الخطورة تهدد بتفجير حرب عالمية ثالثة ، وكان زعيم كوريا الشمالية يظهر في وسائل الاعلام والبسمة لا تفارق وجهه ذو السمات الإشكالية ليرد بعنف وتحدي على تصريحات الرئيس الامريكي الذي كان يهدد بمحو هذا البلد " المؤذي" من الخارطة .
وبعد كل تصريح للرئيس الأمريكي كانت كوريا الشمالية تعلن عن إجراء تجربة نووية جديدة ، أو إطلاق صاروخ باليستي بعيد المدى قادر على حمل رؤوس نووية ويستطيع الوصول إلى المكان الذي تقرر بيونج يانج استهدافه .
تطايرت الصواريخ الكورية الشمالية التجريبية محلقة فوق الاراضي اليابانية نحو أهدافها البعيدة ، فتململت الشخصية اليابانية المحاربة الكامنة في قلب الصناعة المدنية الهائلة والغارقة في الهندام المدني الراقي الذي غطى كل مظاهر الحياة فيها ، تتحسس وجع الاستفزاز الكوري وإلى جانبها إتفاقات الإذعان التي جعلت أمنها بيد القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية وخاصة أمريكا . على فكرة كانت شبه الجزيرة الكورية حتى الحرب العالمية الثانية محمية يا بانية ومصدراً للقوى البشرية التي تعمل لتلبية الحاجة اليابانية .
إشتعلت المواجهة ، بينما كانت كوريا الجنوبية أكثر هدوءاً من غيرها . وكان العالم مستغرباً ذلك الهدوء الذي حمل معه إرادة يجهلها غير الكوريين تتجاوز انفعالات الايديولوجيات والاستقطابات الدولية وتقاطعات المصالح الاجتماعية الضخمة للشعب الكوري التي صنعها نظامان مختلفان ومتصادمان إلى درجة كانت فرص التقارب بينهما تبدو مستبعدة.
لم تنقسم كوريا إلى شمال ملتحق بالمعسكر الاشتراكي ، بقيادة كيم ال سونج ، وبدعم من الصين والاتحاد السوفيتي ، وجنوب رأسمالي بدعم أميريكي إلا عام ١٩٥٣ بعد حرب أهلية خسر فيها الكوريون خمسة مليون إنسان .
تفجرت العقلية الاقتصادية والصناعية في "الجنوبية" على النحو الذي غدت فيه قوة اقتصادية وتكنولوجية عالمية خلال فترة لم تتجاوز خمسين سنة ، أما "الشمالية" فقد اتجهت نحو تعظيم المدخلات الايديولوجية في إدارة البلاد على النحو الذي ظل فيه الاقتصاد مثقلاً بهم الايديولوجيا وحماية مؤسس النظام وعائلته ، ناهيك عما واجهته البلاد بعد ذلك من حصار مجحف .
رأينا في المونديال الشتوي الذي جرى مؤخراًً في كوريا الجنوبية دموع الرياضيين الكوريين من البلدين تنحدر من مآقيها الجليدية في صورة معبرة ، لم تدهش العالم ولكنها لقنته درساً في قدرة الشعوب على تجاوز محن الأنظمة بتعبيرات بسيطة تستخلص الحلول لأشد الأمور تعقيداً ، وتذكر الأنظمة في نفس الوقت أن هناك حل لأي مشكلة حينما تكون الشعوب حاضرة بقوة في المشهد متجاوزة مصالح النخب المتحكمة في مفاصل الحياة .
لم ينته المونديال إلا وقد استدعى الكوريون أنفسهم من خنادق المواجهة إلى مائدة تبحث في التقارب بين البلدين الشقيقين . وجاءت دعوة رئيس كوريا الشمالية الرئيس الامريكي إلى اللقاء بعد توافق كوري - كوري قلب كل الحسابات ، وفي مشهد من المشاهد القليلة فإن تغير مجرى الاحداث على ذلك النحو يجعل من عملية التغيير حدثاً تاريخياً بكل معنى الكلمة .
في مثل هذه اللحظات الحاسمة يصنع تاريخ لا يستهان به في تشكيل مسار للبشرية تنتظم فيه دوافع الارتقاء بالحضارة الانسانية بما فيها من ثقافات وأعراق ومصالح وديناميات .
لا شك أن المسألة لن تحتكم إلى جذرها العاطفي ، فقد تخطت شروط التقارب بين الكوريتين هذه المسألة بمسافات كبيرة من التطور الاقتصادي والتكنولوجي الهائل الذي خلق بيئتين مختلفتين للعيش والتفكير وإدارة شئون الحياة مما يعني أن المسألة لا تستهدف في الوقت الحاضر غير القبول بالتعايش بدون توتر ، وتصفية عوامل المواجهة بما في ذلك السلاح النووي وانهاء الحصار والذي قد يوفر شروطاً للتعاون الاقتصادي والعلمي يدفع بديناميات كامنة للنهوض والتطور في كوريا الشمالية ، يقابلها تسوية ثقافية وسيكولوجية cultural composition في كوريا الجنوبية ، وجميعها تنتج الشروط الضرورية للتعاون وللاستقرار والتعايش .
غير أن ما يوجب التأمل فيه ، وسط هذا الازدحام من المشاكل والمتغيرات الدرامية ، هو الانطلاق السريع والتراجع الأسرع في امتلاك السلاح النووي من قبل كوريا الشمالية .
تعرض هذا البلد لضغوط ضخمة وحصار شديد ، وحاول أن يلفت الانتباه إلى ما يعانيه بأدوات سلمية، لكن الجميع لم يلتفت إليه ، حتى أدرك في نهاية المطاف أن هذا العالم لا يعترف إلا بالأقوياء فقرر أن يجرب أسلوباً آخر تمثل في السعي إلى امتلاك سلاح الدمار الشامل ليلفت الانتباه إلى مطالبه وهو ما تحقق له في النهاية .
لكن قراره لم يكن ببلاهة البعض لأنه يدرك أنه سيكون هدفاً لتدمير شامل في نهاية الامر ، ولهذا فقد ربط نجاحه في إنتاج هذا السلاح بمشروع التفاهم الذي يفتح أمامه شروط الاصلاح الشامل لأوضاعه الصعبة .
الجزء الاول من العملية انتهى بلقاء زعيمي كوريا ، وهو الجزء الذي سيجعل اللقاءات اللاحقة خارج الكوريتين مجرد ترتيبات بروتوكولية لاستكمال التفاهمات . أما الجزء الآخر فقد توزع بين لقاءين الاول : لقاء زعيم كوريا الشمالية مع القيادة الصينية وهو بدون شك لقاء حاسم وتم بدون ضجيج . والثاني لقاءه بالرئيس الامريكي ترمب والذي أعلن عن موعده ومكانه ( يوم ١٢يونيه القادم في سنغفورة) والذي يتوقع أن بوادر نجاحه قد حملها وزير خارجية ترمب الجديد السيد" بومبيو" أثناء زيارته لبيونغ يانج .
نستخلص من دروس الحياة الكثيرة أن الغرق في المشكلة هو أسوأ من المشكلة ذاتها . الحياة عظيمة في حركتها لا في سكونها .. والحركة تعني ميلاد شروط وظروف جديد مع كل انتقال من حالة إلى أخرى .


مقالات الكاتب