القتل وما وراء القتل في الجنوب
د. عيدروس النقيب
ما تزال عمليات القتل والاغتيال والتهديد بهما تتصدر عناوين الأخبار الواردة من عدن، وعقب كل حادثة اغتيال تصدر البيانات والتنديدات ويتكرر التهديد والوعيد بملاحقة الجناة لكن لا شيء يتغير إلا الزيادة المضطردة في أعداد الضحايا من قبل الجماعات الإجرامية المستأجرة والمؤجرة ممن لا يميزون بين مدنيٍ أو عسكري ، ولا بين امرأةٍ ورجل، ولا بين بالغٍ وطفل.
تصدر أخبار الأيام الثاث الأخيرة خبر اغتيال الأستاذة الجامعية، عميدة كلية العلوم بجامعة عدن الدكتورة نجاة علي مقبل مع ابنها المهندس سامح وحفيدتها، في عمل بهائمي وحشي تقشعر له الأبدان والقلوب والمشاعر.
لا بد بدءً من التوجه بأصدق مشاعر العزاء والمواساة إلى أسرة الشهداء الثلاثة الأكاديمية الدكتورة نجاة وابنها وحفيدتها، وأخص هنا زميلنا الأستاذ عبد الباري مقبل شقيق الشهيدة، وإلى كل محبيها وأصدقائها وإلى كل طلابها وزملائها والأسرة الأكاديمية بجامعة عدن وكل الوسط الأكاديمي في عدن وغيرها من الجامعات، والابتهال إلى الله أن يرحم الشهداء الثلاثة وكل ضحايا القتل والإرهاب جميعا ويتوب عليهم ويسكنهم جنات النعيم مع الشهداء والصديقين واالأولياء والصالحين.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: من وماذا وراء القتل والاغتيال الذين استفحلا في مدن الجنوب وفي عدن على وجه الخصوص؟
من غير شك أن هذه العمليات الإجرامية الإرهابية لا يمكن أن تصدر عن أشخاص منفردين، ولا حتى عما يسمى بالجماعات المسلحة المنفلتة من تلك التي تضاعف انتشارها بسبب غياب الدولة والتجميد المتعمد لجهازي القضاء والنيابة العامة، وانعدام التنسيق بين المراكز والأجهزة والمؤسسات الأمنية والدفاعية، فتلك الجماعات (المسلحة المنفلتة) هي منشغلة بقضايا السطو والنهب وجمع المال وابتزاز الناس، ولا يمكن أن يكون القتل من أجل القتل هو هدفها.
إذن عمليات الاغتيال المنظم والممنهج هو سياسة تكمن وراءها أطراف لها مؤسسات ومنهاج وأهداف سياسية ومصالح مادية وسياسية تستهدف من خلالها النخبة الأكاديمية والثقافية والأمنية والقيادات الدينية في عدن والجنوب، وقد تشمل أهدافها أفراداً عاديين.
لكن السؤال يظل شاخصا بوضوحٍ لا مواربة فيه: لماذا عدن؟ وماذا يستفيد القتلة ومن يقف وراءهم من هذه العمليات؟
وبعيدا عن الخوض في تفاصيل التحليل والتركيب والتعقيد والتبسيط يمكن القول: إن استهداف الأمن في عدن هو عمل سياسي يتخذ من الجريمة والإرهاب وسيلةً لهُ (مهما كانت بشاعتها وتصادمها مع القيم والأخلاق السياسية)، ويهدف هذا العمل إلى نشر الرعب والخوف بين المواطنين للتأكيد على عدم صلاحية عدن لتغدو عاصمة دولة (سواء كانت هذه الدولة هي دولة الشرعية أو الدولة الجنوبية المرتقبة).
يأتي في سياق هذا الهدف هدفٌ آخر هو إلهاء الشعب الجنوبي عن النضال من أجل قضيته الجنوبية المشروعة والعادلة والانشغال بالبحث عن الأمان. وجعل الخوف كابوسا مسيطرا على كل الناس وفي مقدمتهم الشريحة المتعلمة وصناع الرأي.
كما تستهدف عمليات القتل والاغتيال تجفيف الجنوب من هذه العقول والكفاءات العلمية والدينية والسياسية والقضائية، التي لا شك أنها تمثل ثروة من ثروات الجنوب الرئيسية التي يمكن الرهان على عطاءاتها في هذه اللحظة وفي المستقبل القريب والبعيد.
لا يمكن أن يتوقف القتل والاغتيال في الجنوب في ظل الوضعية المزدوجة التي يبدو فيها الجنوب من ناحية منطقة محررة، ومن ناحية أخرى ساحة مفتوحة لكل الوافدين من المعلومين والمجهولين، من المخبرين والمخربين، من عديمي الهويات وأصحاب الهويات المزورة، وجماعات القتل التي شاركت بحماس في قتل أبناء وبنات عدن من النساء والأطفال وتصفية النازحين خلال حرب 2015م البغيضة، كما ممن كانوا غزاة متفوقين في العام 1994م وما يزالون متمسكين بإصرار وفجاجة بقدسية تلك الحرب ومشروعيتها، كل هؤلاء مضافٌ إليهم جماعات الإسلام السياسي الجهادي الذين يرتبطون بوشائج عميقة مع أطراف سياسية يمنية منذ الثمانينات وما قبلها عند الانخراط في حملات التجنيد والتمويل والحشد للجهاد في أفغانستان.
كما لا يمكن استتباب الأمن في عدن وغيرها طالما بقيت الحكومة نازحة خارج البلد تاركة مسؤوليتها عن حماية أرواح الناس وممتلكاتهم متخلية عن أهم واجب من واجبات الحاكم (المحترم) بيما يكتوي الشعب في المناطق التي يسمونها (محررة) بنيران الفقر والفاقة والبطالة وسوء الخدمات وانعدام بعضها وفوق هذا انتشار حالة الاستثمار في الإرهاب والقتل والاغتيال.
عمليات القتل والاغتيال ستتواصل طالما توقفت أجهزة السلطة عن أداء واجباتها وانشغل القائمون عليها بتحسين أوضاعهم وترتيب أوضاع أبنائهم وأقربائهم وأصدقائهم و(في أحسن الأحوال) أعضاء أحزابهم، وتزداد المسألة بشاعة وفجاجةً عندما يتورط في تبني ودعم جماعات القتل والاغتيال الممنهجين بعضٌ من صناع القرار السياسي في طرفي الصراع بين الشرعية والانقلاب، ما يعني أن تلك الأطراف التي تتفق في أكثر من موقف عندما يتعلق الأمر بالجنوب، تتفق كذلك في الموقف من الإرهاب وسياسة القتل والاغتيال طالما صارت هذه السياسية وسيلة لإبقاء الجنوب مرتهناً لغزاة 1994م و2015م، ضعيفا مفككا مفتقداً للحياة الطبيعية الآمنة والمهيأة لبناء مستقبل مختلف عما أنتجته الحربان البغيضتان.
حكومة الشرعية (بكل أجنحتها) أمام تساؤل كبير: ما موقفها مما يجرى في عدن والجنوب من قتل وإرهاب؟ ومتى ستتحمل مسؤوليتها في حماية حياة الناس من القتل الممنهج؟ ومتى ستعلن عن كشف قاتل واحد وتعلن عن تقديمه للمحاكمة العادلة لينال جزاءه، وليكون عبرةً لغيره من القتلة والمجرمين، بل ومتى نسمع عن تفعيل وظائف أجهزة الأمن السياسي والأمن القومي، والنيابة العامة والجهاز القضائي؟
رحم الله الشهيدة د. نجاة علي مقبل وابنها وحفيدتها وكل ضحايا التهديد القتل والاغتيال والإرهاب بكل أنواعه وأشكاله في عدن وفي غير عدن، ولعن الله تجار القتل والمتخاذلين وسماسرة الإرهاب والتهديد والتصفيات الجسدية.
ولا نامت أعين الجبناء!