تحليل: من وما وراء انفجار الوضع في السودان؟
لطالما حذرالعديد من الكتاب والخبراء من أن الأمور كانت تتجه في السودان إلى سيناريو العنف السياسي بحسب المعطيات التي كشف عنها واقع سياسي كان من الضرورة بمكان أن تفضي تداعياته وانسداداته إلى تلك الحرب.
أولا:كان واضحاً أن الفساد الذي تخلق وتراكم في بنية الدولة السودانية جراء أخطاء بنيوية منذ الاستقلال قد بدت تطبيقات الإسلام السياسي لنظام الإخوان المسلمين حلقته الخبيثة الأخيرة على النحو الذي نراه اليوم في حرب هي الثمرة المسمومة لتخريب الجيش الوطني على مدى 30 عاماً، ليبدو صراع الجيش والدعم السريع الذي يتطور اليوم بوتيرة متسارعة معركة تكسير عظام لا نجاة منها، وهو فساد سيتعذر إدراك طبيعته المميتة دون استيعاب أن الخلاص من نظام إخواني كالذي عرفه السودان 30 عاماً لا يمكن إلا بشق الأنفس.
ثانيا: ينهض عجز القوى السياسية السودانية ليضع السودان اليوم أكثر من أي وقت مضى أمام دروس قاسية ومكلفة للضريبة التي سيتعين على القوى السياسية دفعها جراء غياب وعي وطني تكشف عواره في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ العنف السياسي، لتضع الجميع أمام هول المأساة.
وثالثا: يمكن القول إنه بالنظر إلى ما يجري من عنف سياسي مميت في مدينة الخرطوم منذ يوم السبت الـ 15 من أبريل 2023 على خلفية نزاع عسكري على السلطة تحتم وقوعه بين الجيش والدعم السريع، فإنه لا يزال ثمة إمكان للخروج من دوامة حرب يمكن القول أنها دُبرت من طرف ضباط كبار من الإخوان في الجيش لتكون مغامرتهم الخطرة والأخيرة.
عنف سياسي مختلف:
العنف السياسي في السودان هذه المرة مختلف اختلافاً نوعياً ، فهذه الحرب التي تجري اليوم بين الجيش والدعم السريع في الخرطوم هي خلاصة لخراب ضرب بنية الدولة السودانية في مركزها الذي كان باستمرار يبدو في منأى من تاريخ عنف الأطراف الذي كانت تفجره سياسات ذلك المركز، فالخراب الذي ضرب بنية الجيش السوداني جراء الرؤية الانقسامية المفسدة في أيديولوجيا الإسلام السياسي وصلت تداعياته حدها الأقصى من انفجار التناقضات، إذ فجأة تكشفت خطورة الأدلجة والتسييس والانقسام الذي أحدثه الإخوان المسلمون خلال 30 عاماً داخل الجيش عن تكوين الجسم (الدعم السريع) الذي كان في حقيقته جسماً عسكرياً موازياً للجيش، وكان من الواضح أنه عاجلاً أو آجلاً ستنفجر التناقضات بينهما.
نية مبيتة لاشعال الحرب:
كان واضحاً أن ثمة نية مبيتة لضباط كبار من الإخوان في الجيش ظلوا يضغطون على قائده الفريق أول عبدالفتاح البرهان لإشعال هذه الحرب...وآخرون كانوا قد نفخوا بالونة غرور قائد قوات الدعم السريع.
واليوم وفيما تدخل الحرب يومها التاسع فثمة علامات أساس ربما تكون سبباً في إمكان احتوائها في الوقت المناسب، فهذه الحرب حتى الآن تعتبر حرباً بين قوتين، قوة عسكرية (الجيش) وقوة شبه عسكرية (الدعم السريع) عكس التحالف الذي كان بينهما بالأمس اختلافاً بيناً عن سياقات أخرى للحرب في المنطقة، كما أن عزوف الشعب السوداني عن التفاعل مع هذه الحرب التي ربما توهم طرف فيها تعاطف الشعب معه، يمنع حتى الآن، لكن موقتاً، إمكان تحولها إلى حرب أهلية شاملة، إلى جانب حياد خمس حركات مسلحة حتى الآن، فإذا أضفنا إلى تلك العلامات الطبيعة الجيوسياسية للسودان والصراع الذي يدور في المنطقة بين روسيا والولايات المتحدة، وهي طبيعة تفرض على القوى الدولية الكبرى الحرص على عدم انهيار الدولة المركزية في السودان في هذه المنطقة، فإن بالإمكان احتواء هذه الحرب إذا لم تستمر طويلاً في بلد بالغ الهشاشة مثل السودان، ويعاني أزمات وانقسامات إثنية وجهوية في الصراع على السلطة، ولهذا فإن السباق مع الزمن هو الفيصل في احتواء هذا العنف.
السياق الذي يؤطره الاستقطاب في دعاية العنف السياسي الذي يجري اليوم على هامش الحرب بين الجيش والدعم السريع في السودان، فيما يتردد بين افتراض انطباعي أولي لدى بسطاء المواطنين من حيث ولائهم لجيش البلاد بطريقة تلقائية، وهو انطباع يستثمره الجيش اليوم لكسب عاطفة المواطنين إلى صفوفه، وبين انطباعات مشوشة وسالبة عن قوات الدعم السريع في سياق يعكس في الوقت ذاته دلالات أخرى واضحة ومغايرة تتضح من خلال اصطفاف كل رموز وأنصار نظام البشير (الإخوان المسلمين) ومحازبيهم إلى الجيش في هذه الحرب.
وحيال استقطاب كهذا يلتبس على كثيرين بين صورة انطباعية سلبية للمواطنين عن قوات الدعم السريع وصورة انطباعية مثالية عن الجيش، سيبدو جلياً هنا أن الأمر اليوم على التحقيق لا يعكس حقيقة واضحة حيال أي من الطرفين، فالجيش الذي بدا واضحاً اليوم أنه جيش على رأسه ضباط كبار من الإخوان يريدون حرق الوطن من أجل السلطة والعودة للحكم، ليس هو بطبيعة الحال الجيش كنظام وكجنود، لكن في الوقت نفسه فإن تاريخاً دام 30 عاماً من الإفساد الذي مارسه نظام البشير في هذا الجيش الذي تتربع على رأسه اليوم قيادات إخوانية لا تملك ضميراً وطنياً ولا بوصلة أخلاقية، يضع السودانيين أمام تشويش قد يبدو لكثيرين في هذه اللحظة التاريخية الفارقة أمراً طبيعياً في مناصرتهم للجيش من دون أن يدركوا من سياق المجريات الغريبة للحرب أن قادة كثيرين في الجيش لم يكونوا يعلمون ساعة الصفر... مما أوقع عشرات من كبار ضباط الجيش أسرى في ايدي قوات الدعم السريع خلال الساعات الأولى للمواجهات.