التكفير.. والدعوة للاعتدال
هاني مسهور
الكتلة الأصولية ما زالت تقاوم موجات التغيير التي تبدو عاجزة عن تفكيك ما تمثله هذه الكتلة المتحجرة المستندة على موجودات كتب التراث العربي والإسلامي، وهنا تتجلى المعركة الحقيقية فكلما تم الاقتراب من هذه الموجودات لتطهيرها وتنظيفها من العوالق الترابية التي غطتها.
تتصاعد الهجمات الشرسة، فهذه هي نقطة التماس التي يحرص عليها الأصوليون، فهي التي تبقي وجودهم وتغذي أفكارهم المضادة أصلاً للدولة الوطنية الحديثة. وبنظرة أكثر اقتراباً، فإن ما يمكن رؤيته في عالم وسائل التواصل الاجتماعي يغني عن كل قول وحديث، فلقد ساد بين الناس التكفير من دون ضابط أو رادع يردعهم، فهناك إرث وكتلة صخرية يحتمون بها بغياب قانون واضح يردعهم. المسألة أعمق من كونها نمطية سائدة بين عوام الناس، وأنها تتطلب خططاً ومعالجات، فهذه صيغة يروّج لها الراديكاليون أنفسهم لإبعاد القوى الوطنية من كسر تابوهات ما يعتبرونه أفكاراً ثابتة.
كل ما يفعله هؤلاء هو أنهم يضخمون من هول الخطوات ناحية مفاهيمهم ومعتقداتهم، هذه الحوائط في حقيقتها أوهام تعطل المهمة الواجب القيام بها باقتحام كهوف الجهل وتحطيم ما بداخلها من أصنام وأوثان صنعت واقعنا العربي كما هو اليوم من فشل ذريع يطال بعض الدول. فهذه المنطقة من العالم يراها البعض أنها لم تنتج للبشرية ما يمكن الإشارة إليه غير المفخخات والأحزمة الناسفة وذئاب منفردة صنعت الرعب والخوف من الإنسان العربي، على الرغم من أنها تمتلك الكثير من المقومات المفيدة للبشرية، ولديها مساهمات كبيرة.
أفاقَ العالم ذات يوم على بعض من الرجال العرب يحملون على أكتافهم بنادق الكلاشينكوف ويجلسون تحت جبال «تورا بورا»، العالية وهم يقسمون العالم بين فسطاطين. وكان من المفترض بالعقل العربي أن يستيقظ ويعي ما عليه أن يقوم به فلقد كان المشهد كاشفاً، ومع ذلك عاش العقل العربي على ما اعتاد عليه من إنكار الواقع وذلك المشهد الفارط في بذخه كشفاً لحصاد الإرث الثقافي العربي المتشبث بالأصولية والرافض لقبول متغيرات الطبيعة الكونية، واكتملت الصورة باستدعاء العرب لنظرية المؤامرة لتبرر أن عرباً فجروا وقتلوا وأرهبوا الدنيا لا لشيء إلا لأنهم يعتقدون أنهم وحدهم يجب أن يحكموا الأرض ومن عليها ففتاوى مرجعياتهم تقول ذلك وتجاهر به.
لم تكن المعالجات ترتقي لما يفترض أن تكون عليه، فالجريمة التي بدأت بالفتوى أنتجت أبشع جرائم القتل بقطع الرؤوس وتمزيق الأجساد ومع ذلك انحصرت المعالجة في نطاق الملاحقة الأمنية مع حذر من المساس بمنابع الأفكار المعلوم أنها جاءت من كتب التراث العربي الديني، ومقتضيات الحذر برغم أن تحولات أتاحت الفرص المتوالية لكسره واقتحام أسوار الوهم التي تتحصن بها الأصولية الدينية، ومع ذلك ظلت المخاوف قائمة لاعتبارات ليست موجودة إلا في العقل الجمعي العربي الذي يعتقد أن تطهير التراث قد يؤلب المجتمعات العربية.
كل هذا أنتج حقيقة واحدة وهي أن المجتمعات العربية قبلت بأن تكون حبيسة الخوف من التكفير العام لدرجة أن «التكفير» باعتدال أيْ بالتقنين في توافق لا ينسجم مع طبيعة أن تكون المجتمعات محصنة تماماً من التخويف والإرهاب الفكري، فلن تستطيع هذه المجتمعات مهما أغدق عليها من المعارف العلمية أن تكون قادرة على الابتكار وستظل دائماً معلقة برد فعل الأصوليين على المنتجات الإنسانية الإبداعية، فلا ينسجم الابتكار مع القيود، فهذه قاعدة من قواعد الطبيعة الإلهية التي خلق عليها البشر في هذه الأرض. العرب إن أرادوا الخلاص من واقعهم، عليهم أن يقرروا التفكير باعتدال كونه الخطوة الكاملة الشجاعة لإنهاء كل أشكال القيود الراديكالية على مجتمعاتهم التي يجب أن تتحصن بالدساتير الوطنية، التي توجب القوانين النافذة على كل أفراد المجتمعات.