ما تفسير النقمة القطرية على الرياض وأبوظبي
عمر علي البدوي
حملة شعواء وعمياء يخوضها المعسكر الإعلامي المحسوب على الإخوان المسلمين، لشيطنة العواصم العربية التي اختارت وقف نزيف الاستقرار في المنطقة، وإطفاء نيران الفوضى التي توقدها مبررات موجهة لدفع السياسات في صالح كفة ما.
يذهب الخطاب المتأخون أقصاه في التشويه وتقبيح رموز تلك العواصم بهدف إسقاط صورتها وإلحاق الضرر بسمعتها، عبر سلسلة من التهم الملفقة والادعاءات الباطلة.
وقد تخلص الإعلام المتأخون من كل القيم المهنية والأخلاقية حتى في مستوى الضرورة منها، وتعسّف في ملاحقة التفاصيل الواهية لحشرها وحشدها في زاوية المواجهة السافرة، موظفا كل قواه وتركيزه في سبيل الخصومة السياسية.
لا يمكن تفسير الحدة التي تجدها في خطاب المنصات الإعلامية التي يتبناها ويستحوذ عليها أفراد وأعضاء الإخوان المسلمين ورعاتهم في تركيا وقطر، ضد كل ما هو سعودي ومصري وإماراتي، لمجرد الخصومة التي نشأت منذ إعلان الرباعي العربي مقاطعة نظام الدوحة. إذ كان عداؤهم سافرا وملموسا قبل ذلك بكثير، وكل ما فعلته المقاطعة هو دفعهم للعب على المكشوف ودون مواربة أو تلميح، إذ كان الخطاب يتجنى على القيادة السياسية في القاهرة وأبوظبي منذ وقت مبكر، فيما يحاول بطريقة ما أن يخفف من غلظته إذا كان الحديث يمسّ الرياض، ليس طلباً لودها ولكن خشية غضبها.
ولأن الرياض كانت تعرف ما تبطنه تلك الجهات من عداء مكنون وضغينة مدفونة تحت خطاب متملّق، اختارت التوقيت المناسب لضربتها المزدوجة مع بقية حلفائها من عواصم مشروع الاستقرار العربي، بعد سنوات من الغياب والتحفظ والتردد، أغرى قوى التغيير المؤدلج للانتشار والعبث بالمنطقة، بوجدانها أولا ثم بواقعها. هذا الخطاب وقد كشف عن سابق عدائه وحقده، يعلن بطريقة ما عن أقصى انفجاره في وجه العواصم التي حالت دون استكمال مشروعه الحالم، وحسمت موقفها من مناوآته المتكررة للإضرار بها.
كانت الدوحة وكل أسطولها الاستشعاري والإعلامي، إلى وقت قريب تمني النفس بأن الرياض ستبقى غافلة تماما حتى توقع بها المكائد التي نسجت لعقود، ولكنها استيقظت قبل أن تتحسّس الحبل وهو يلتف حول رقبتها.
لم تكن الرياض تتمهل سذاجة منها، بل كانت تعوّل على أن الزمن كفيل بتلقينهم درساً عن هشاشة المشروع وعدم جدواه، إذ ينطوي في صميمه على ما ينقضه ويعجزه عن التحقق والنجاح.
الدوحة، وهي تتلقى دعما رغبويا من أنقرة، وتستثمر تكتيكيا في جرح طهران المفتوح لمناجزة السعودية، دأبت على العمل وواصلت سعيها الحثيث لبسط نفوذها وبث أيديولوجيتها.
هبط الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، كهدية من السماء لمشروع الدوحة المتسربل بالإخوان، بعد أن آمنت الدوائر السياسية النافذة في واشنطن بفكرة تدعيم وجود المكون الإسلامي في سدّة الحكم لفك انغلاق الحالة السياسية المتعثرة في الشرق الأوسط، وضمان وجود معادل ملائم في وجه المكون الشيعي الذي قدم له أوباما طوق النجاة التاريخي.
التقطت الدوحة وزبانيتها إشارة الانطلاقة الخضراء من البيت الأبيض واستعجلت لاستثمارها، والدفع بكل أسلحتها وأدواتها لتبيئة المنطقة وتوطين المشروع الجديد في وجدان شباب عربي أقتمت في وجهه كل سبل التغيير، إلا من طريق تزينه الشعارات وتلهبه آلة النفخ القطرية الهائلة وهي تدق طبول اللحظة اللامعة في كبد المستقبل.
كان الربيع العربي ذروة الانتصار الواهم لقوى التغيير المؤدلج وهو يشتعل في أطراف المنطقة. كان أمير قطر السابق حمد بن خليفة منتشياً في قصر الوجبة وهو يوجه الطائرات عبر الهاتف لتغيرَ حيث يريد على الأراضي الليبية، بينما يجلس مزهوا ببزته العسكرية المرقطة.
كان صعود الإخوان إلى سدة رئاسة مصر حدثا فوق توقع أكثر المتفائلين في آلة الحلم القطري المتأخون، كانت لحظة سابحة في الخيال وسخيّة بمشاعر الإرضاء، كان أمير قطر وهو يستقلّ موكبه الضخم من القاهرة إلى غزة حيث تنتظره جيوش المرحبين التابعين لأيديولوجيته أشبه بفتح عظيم يغريه ويسيل لعاب أحلامه العريضة، فيما تتقدم جحافله المحفوفة بأمواله وإعلامه في اليمن وليبيا وسوريا وتونس.
لا شيء سيوقظه من أحلامه أو يوقف شلال دعمه السخي لهذه الفتوح العظيمة في خارطة مشهد يتشكل على هواه ورضاه، لقد كلفه ذلك الكثير من مدخراته وخزائنه وتحفّظه الذي كان يتّقي به غضب جيرانه. انفلت من عقال التقيّة التي كان يتوخى بها استفزاز محيطه القريب وأسفر عن شبكة أحلامه المعقدة وافتضح مشروعه بعد أن استعجل ثمرته ولم تنضج بعد.
لم تكن تلك الدماء التي تسيل في سوريا وليبيا واليمن لتثبط من عزيمته على المواصلة، لم يكن يرى الفوضى التي تعيث بالمنطقة، والخوف من زيادة فجوات وفوهات الانفلات والانهيار، وقد طمست بصيرته من ركام العروش الهاوية في وجه زحفه الجرار للاستحواذ عليها.
فجأة توقف كل ذلك على صورة عزل الرئيس المصري محمد مرسي، وهو الذي كان يشكل تاج إمبراطورية الأحلام الشاذة، استشاط وجأر في وجه من دعم حماية مصر من الانزلاق إلى المجهول الذي تدخره لها “الجماعة” في سراديبها المغلقة، تقوضت أحلامه الغضّة عندما انحسرت حركة التثوير الموجهة، واستعادت المنطقة بعض توازنها بعد لملمة الرياض لبقايا دور عربي مهزوم في وجه هذه الزوابع الإخوانية الشاردة.
وعندما جاء الأمير محمد بن سلمان وأعلن الموقف النهائي للسعودية من الإخوان المسلمين وحركة دسائس التغيير الموجه، كان ذلك بمثابة المسمار الأخير في نعش الحلم القطري الذي تبدّد تماماً، وأعيته قاصمة الرياض المزدوجة.