الثأر ليس حكرا على تقاليد القبيلة


في مطلع عام ١٩٨٠ عند غزو الأتحاد السوفيتي لأفغانستان صرح زينغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي كارتر لأحدي الصحف الفرنسية ان الولايات المتحدة أعادت رفع المصعد الكهربائي للسوفيت انتقاماً منهم بما عملوه لهم في حرب فيتنام
والذي قصده برجينسكي من هذا التعبير الفرنسي ان السوفيت بقدر مااتعبوهم في حرب فيتنام فان الثأر السياسي منهم سيكون الان في اخراجهم من افغانستنان !! كما ساهم السوفييت في هزيمتهم في حرب فيتنام.


في العادة روح الانتقام هي واحدة من التقاليد الأجتماعية لدي بعض القبائل تتوارثها الأجيال علي مستوعي جماعي أو فردي.

والقول ان الانتقام السياسي يمثل احد ظواهر العلاقات بين الدول في العلاقات الدولية قد يدعو هذا الأمر الي الاستغراب و الدهشة على اساس ان الدول تحكم علاقاتها القانون الدولي والاعراف الدبلوماسية لكونها كيانات مؤسسية لا تخضع لامزجة قياداتها الحاكمة مثل مكانة شيخ القبيلة بين افراد قبيلته.

وكما سنرى ان الثأر ليس حكراً علي التقاليد القبلية بل هو موجود ايضاً علي مستوى العلاقات بين بعض الدول حيث دوافع الثأر تشكل احد عناصر سياستها الخارجية من منطلق ايديولوجي او لدوافع شخصية لبعض قادتها دون ان تقتصر الامثلة على ذلك في نطاق الدول النامية. 

فعلى مستوى الدول النامية اليمن تشكل تجسيداً لحالات الثأر السياسي على مستوى الدولة او على مستوي تكويناتها القبلية ومكوناتها الأجتماعية الأخرى.

ففي إطار الجمهورية العربية اليمنية الدولة هي القبيلة والقبيلة بذاتها تتصرف وكانها هي الدولة فالرئيس علي عبد الله صالح بحكم انتمائه الى قبيلة حاشد وزع مناصب الدولة على افراد اسرته وقبيلته من خلال مواقع عسكرية وأمنية وادارية للتحكم على مواقع صنع القرار وترك مساحات هامشية لبقية القوى القبلية وعلى رأسهم قبيلة بكيل المنافسة لقبيلة حاشد.

وكرد فعل لهذا التمييز بين القبيلتين عمدت قبيلة بكيل على دعم الحوثيين في محافظات عمران وحجة والجوف وصنعاء من منطلق رؤية ابناء بكيل ان دعمهم للحوثيين انهم بذلك ينتقمون من السلطة الحاشدية المهيمنة علي مفاصل الدولة.

ووصل الامر كما اشارت اليه مجلة السياسة الدولية المصرية لعام ١٩٩٤ ان قبيلة بكيل عمدت اثناء حرب قوات صالح علي الجنوب الي تأمين ممرات آمنة للقوات الجنوبية للعودة الى الجنوب بعد ان عملت على الاستيلاء على اسلحتهم الثقيلة والشخصية ! حيث تاريخيا كان الشيخ سنان أبو لحوم زعيم قبيلة حاشد تربطه علاقات ودية مع الحزب الاشتراكي اليمني وعاش لفترات في مدينة عدن عاصمة الجنوب في فترة ما قبل الوحدة.

ولعل شخصية الرئيس صالح اكثر ما يجسد سياسة روح الانتقام بتغير مصالحه السياسية واساليبه التكتيية في علاقته مع جماعة الحوثيين ، فقد قام صالح في البدء علي دعم الحوثيين بهدف تقويتهم ليوازن بهم امام صعود دور حزب الاصلاح المتأسلم الأخواني ومنافسيه على السلطة من بيت الاحمر من قبيلة حاشد والذي يعتبر صالح نفسه منتمي الى نفس القبيلة ، وعمد لاحقاً الى محاولة إضعاف الجماعة الحوثية وتفكيكها من خلال دعم الجماعات السلفية المضادة لها. 

ليقوم بعد ذلك الى إحداث إنقلاب في علاقاته مع الحركة الحوثية بمساعدتهم على الاستيلاء على العاصمة اليمنية صنعاء والتي كان انصار صالح يدعون ان الرئيس هادي هو الذي ساعد الحوثيين بدخول صنعاء.

وقد نفي الرئيس هادي هذه التهمة التي وجهت له في لقاء صحفي مع احدي الصحف العربية في سبتمبر ٢٠١٧ بقوله “ ومتى كانت لهادي سيطرة على الحرس الجمهوري او الامن المركزي ، او القوات الخاصة ومتى كانت لهادي السيطرة على قبائل حاشد وبكيل او على المشائخ الذين فتحوا الطريق للحوثيين للوصول الي عمران ومن ثم دخول صنعاء بتفاهمات مع علي عبدالله صالح لمصلحة الحوثيين “ وتكرر هذا الدعم ايضا ً من قبل صالح للحوثيين لغزو عدن في ٢٠١٥ ولولا ذلك الدعم لما استطاعوا الدخول الي عدن حيث لم تكن لديهم قوات ولا حاضنة شعبية مثل دخولهم الى صنعاء مما سهل للمقاومة الجنوبية وبالدعم اللاحق للتحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية الى هزيمتهم وطردهم خارج المناطق الجنوبية.

وبالعودة الي المقابلة الصحفية للرئيس هادي حول وصفه للعلاقة بين صالح والجماعة الحوثية حول ما اشير الى توتر العلاقات بينهما قال هناك بالفعل خلافات حقيقية بين صالح والحوثيين لولا انهم يشعرون انهم في قارب واحد لانفجر الصراع المسلح بينهم . فقد سال الدم بين الحليفين كما سال من قبل في حروب صعدة والحوثيين لم ينسوا دم حسين الحوثي( نجل بدر الدين الحوثي ومؤسس الحركة وشقيق عبد الملك الحوثي )

ولهذا حين قويت شوكتهم تخلصوا من صالح وتم قتله وتصفية حساباتهم مع اعوانه ومن الشخصيات القبلية البارزة من آل الاحمر.

وعلى صعيد جنوب اليمن استغل صالح في صراعه مع الجنوب بإحياء العلاقات القبلية وتحالفه مع شيوخ القبائل التي عمدت دولة الجنوب علي تقويض نفوذهم ومحاصرة القبلية دستوريا وتشريعيا وتطبيق مبداحتكار ادوات العنف وممارسته حصرياً علي الدولة وحدها.

ومن جانب آخر استغل صالح ابعاد الحرب الداخلية في الجنوب والمسماة بمذابح ١٣ يناير ١٩٨٦ للانتقام من هزيمتي الشمال في حربي ١٩٧٢ و١٩٧٩ بشن حربه على الجنوب في عام ١٩٩٤ وهزيمته عسكرياً.

فهل النموذج اليمني يشكل حالة استثنائية ام ان العلاقات الدولية ايضا عرفت حالات من روح الانتقام الشخصي لقادتها ازاء دول اخرى ؟

يمكن في هذا السياق الاشارة الي حالتين الاولى مرتبطة بالعلاقات المتوترة التي حدثت بين الجنرال شارل ديجول مع ونستون تشرشل اثناء لجوء ديجول الي بريطانيا كقاعدة في محاربة الغزو النازي لبلاده اثناء الحرب العالمية الثانية باتخاذ بريطانيا مقرا لفرنسا الحرة وبسبب تدهور علاقته الشخصية مع تشرشل غادر ديجول بريطانيا الي شمال افريقيا التي كانت تحت الاستعمار الفرنسي. 

وكان لاستبعاد ديجول من المشاركة في قمة مؤتمر يالتا بحضور تشرشل وروزفلت وستالين اثرا بالغاً في نفس الجنرال ديجول وانتقم من استبعاده من حضوره المؤتمر حين تقدمت بريطانيا مرتين بطلب الانضمام الي عضوية “ السوق الاوربية المشركة “ رفض ديجول قبولها بحجة ان بريطانيا ستكون بمثابة الطابور الخامس للولايات المتحدة داخل السوق الاوربية المشتركة وبالفعل لم تستطع بريطانيا الدخول الى ما اصبح يسمي الاتحاد الأوروبي الا بعد وفاة الجنرال ديجول بتفاهمات تمت بين ادوارد هيث رئيس وزراء بريطانيا والرئيس الفرنس جورج بومبيدو.

والنموذج الآخر للثأر الشخصي في العلاقات بين الدول قرار الرئيس جورج بوش ( الابن ) بغزوه للعراق في عام ٢٠٠٣ لاسقاط نظام صدام حسين لم يكن مبرره فقط تهمة امتلاك سلاح الدمار الشامل بل قيل ان احد مبرراته كانت بسبب محاولات صدام حسين اغتيال والده الرئيس جورج بوش الذي لعب دورا محوريا في تحرير الكويت !!والان ماذا مابعد جائحة كورونا والذي يتفق الجميع بالقول ان العلاقات ما قبل كورونا لن تكون كما كانت مابعد كورونا سواء في اطار الصراع الامريكي الصيني او في اطار الاتحاد الاوروبي الذي شعرت كل من ايطاليا واسبانيا انها لم تحظى بالدعم اللازم من شركائها في الاتحاد الأوروبي كما كانت تتوقعه الاشهر او السنوات القادمة قد تثبت ان روح الانتقام في العلاقات بين الدول ليس كما هو معتقد حكراً على تقاليد القبلية.