الأحقادُ لا تبني وطنا.. رواندا مثالاً (2 – 2)

قلت في الجزء الأول، للتذكير، أنّ البلد الأفريقي رواندا شهد أكبر مأساة للحروب الأهلية في تاريخ البشرية، حيث قُتل ما يقارب 800 ألف شخص من قبيلة أغلبيتهم من التوتسي على يد متطرفين من قبيلة الهوتو في ظرف مائة يوم فقط، وكتبت الصحافية جنين جيوفاني في تغطيتها لتلك الكارثة تقول :" غادرت سراييفوا لتغطية الإبادة الجماعية التي حدثت في رواندا، مليون شخص قُتلوا هناك ببشاعة، كنت أقف في أحد الطرق وانظر إلى أبعد نقطة يمتد اليها بصري، حتى ميل على الأقل، وكانت المسافة كلها جثث مكوّمة فوق بعضها البعض، بحيث يصل ارتفاعها إلى متر وأكثر، وتلك كانت نسبة ضئيلة من الموتى ".

صحيح إنّه بمساعدة المجتمع الدولي تمكّنت رواندا من تجاوز محنتها، ولكنّ دور أهلها في الانتقال من مستنقع الاقتتال المميت إلى آفق مشرقة يملؤها الأمل والنجاح كان يعود في الأساس إلى أنّ الشعب برمّته أدرك أنّه يسير في طريق الموت الذي يجب الارتداد عنه فوراً، ومع وجود قائد حقيقي وهو الرئيس كاغامي الذي تولّى السلطة لاحقاً حدد هدفين واضحين: أولهما توحيد الشعب والثاني انتزاع البلد من الفقر، وبعدها شرع في خطة من عدة محاور، في مقدّمتها "تحقيق المصالحة المجتمعية" وإنجاز دستور جديد يمنع استخدام مسمّيات "التوتسي والهوتو"، وجرّم استخدام أي خطاب عرقي وعاقب مرتكبيه، وجرى بعد ذلك دمج القوات المسلحة وفق عقيدة وطنية واحدة تتجاوز البُعد العرقي، ثم شرَع في تنفيذ خطته في شقها الاقتصادي الذي يرتكز على عدة محاور للنجاح يأتي في مقدّمتها القضاء على الفساد إلى درجة أنّ بعض العقوبات ضد الفساد بلغت حد الحكم بالإعدام، ويقرّ المسؤولون الروانديون بأنّ الإجراءات الاقتصادية قد تم استنباطها من تجربة سنغافورة.

في الحقيقة أنّ التجربة الرواندية تجربة مثيرة للاهتمام والإعجاب والاقتداء، ودليل من الواقع على أمرين أولّهما أنّ طريق الأحقاد وإثارة الضغائن هو طريق لا يسلكه الّا اليائسون- الفاشلون الذي لا يملكون ما يقدمونه لشعبهم الا الموت والدماء والدمار وهو ما نشاهده حاليا من خلال  أعمال "حفنة" ارتمت في أحضان خصوم الجنوب وباتوا ينفّذون لهم هذه السياسة الشيطانية القاتلة، والأمر الثاني أنّ الإرادة البشرية الحقيقية هي مفتاح النصر والنجاح، والذي يدقق في التجربة الرواندية ويقارنها بحالنا في الجنوب العربي لن يملك إلّا أن يتساءل بمنطقية: كيف  لنا ونحن الذين نعتبر أقل عددا في السكان منهم بكثير والذين لنا تجارب في صراعات أهلية لا ترتقي في الخطورة إلى 5% مما حدث لهم لا نستطيع السير في نفس الطريق؟!
تأكّد لي بشكل قطعي أنّ إذكاء روح المناطقية هي أحد أهم الوسائل القذرة التي تستخدمها قوى "الاحتلال المتربّص" حالياً باعتبارها آخر ما تملك من أسلحة للبقاء في الجنوب، وهي تفعل ذلك من خلال "أدوات جنوبية" باعت نفسها رخيصة لهؤلاء مع الأسف الشديد، وكنت قد شعرت بحالة من الأسى ممزوجة بالسخرية والذهول وأنا استمع إلى أحد هؤلاء وهو يتحدث في رسالة صوتية مسمومة بعدد من الافتراءات والأكاذيب عما أسماه بـ "التنكيل بالبطاقة الشخصية لأبناء وأسر أبناء شبوة وأبين من قبل أبناء يافع والضالع.!!" كان يكذب ويفتري وهو يعلم بأنّه يكذب، ولكنه لا يخجل ولا حتى سأل نفسه إن كان هذا المستوى من الابتذال المضلل من الممكن أن يصدّقه أحد؟!

هذا الخطاب المسموم الذي يُبث اليوم لغرض إثارة المناطقية خدمة للأسياد المتربصين بالجنوب يواجه في الحقيقة بالسخرية من الأغلبية الساحقة من أبناء الجنوب وإن كان له تأثير ضئيل على فئة قليلة، وفي هذا الصدد كتب أحد الأصدقاء في تغريدة له تعليقاً على أحد الذين دأبوا على ترديد عبارة "أصحاب القرية".. كتب رداً عليه ما يلي: "أُقرّ وأعترف أنني ابن قرية مربون من مديرية الصعيد – محافظة شبوة، وأي جنوبي لم يُولد في قرية، فليقل لي في أيّ ضاحية من ضواحي روما أو باريس أو برلين ولد وترعرع؟! فيما عدا عدن والمدن الجنوبية الكبيرة الأخرى.. إياك أعني واسمعي يا جارة ولن يفلح فحيح مناطقيتك المقيتة مدفوعة الثمن." انتهت التغريدة.

 أيها السادة الأحرار.. إنّ مثل هذه العناصر لا يمكن أن تقود شعبنا إلّا إلى مستنقعات رواندا، وهي آخر ما يحتاجه شعبنا في هذه المرحلة ولهم نقول: اتقوا الله فيما تفعلون، ولا تجعلوا من المال المدنّس دليل عبور يسوقكم في مربعات العار، عودوا إلى رشدكم فالجنوب يحتاجنا جميعاً وسيجمعنا أيضا جميعاً.