الإخوان»... عباءة الحركات المتطرفة طوال 9 عقود
«يمضى الزمن، تتغير الوجوه، أو تتغير ملامحها التي تواجهنا بها، تتغير اللهجة، وقد تتغير الآنية، لكن الشراب المرير يبقى كما هو، ذات الشراب المرير»... بهذه الكلمات المعبرة يستهل الراحل الكبير الدكتور رفعت السعيد الفصل الأخير من كتابه العمدة «تاريخ جماعة الإخوان... المسيرة والمصير»، ويتساءل في نهاية المشهد: «هل تلد الثعابين إلا مثلها؟ كلمات المفكر المصري الذي خصص جزءاً غالباً من وقته ودراساته الأكاديمية والبحثية لحالة الإخوان المسلمين في مصر تقطع بأن تلك الجماعة كانت ولا تزال الحاضنة التي فرَّخَت المزيد من الثعابين الأصولية والإرهابية حول العالم، وأن بواعث الفتنة آتية دوماً من تحت العباءة الإخوانية؛ فمهما تعددت الأسماء والمسميات، ومهما تنوعت التوجهات؛ فهي تأتي من تحت العباءة التي ألقتها جماعة الإخوان.
الشاهد أنه لكي نفهم الجذور التاريخية والمرجعيات الفكرية لكل الجماعات الأصولية، ناهيك بالمجموعات الإرهابية في العالمين العربي والإسلامي، فإنه لا بد من عودة إلى الخلفية التاريخية العامة التي انبعثت منها حركة الإحياء الإسلامي في السبعينات، وهي حركة ذات امتداد لأفكار وممارسات تنظيمية سابقة.
يقودنا الباحث في شؤون الحركات المتطرفة الدكتور رفعت سيد أحمد إلى فهم أصول الظاهرة، التي تبدأ من التنظير والتأطير الذي وضع لبناته حسن البنا، غير أن سيد قطب وعبر كتابه الشهير «معالم في الطريق» تمكن من وضع الوثيقة الأساسية لآيديولوجية جماعة الإخوان المسلمين، بل آيديولوجية مجمل الحركات المتطرفة خلال فترة السبعينات وعنده كذلك أن أفكار «الإخوان» كانت المنبع الأساسي للخوارج المحدثين، إذ يقول: «سيد قطب في (معالم على الطريق) يرى أن الجهاد عن طريق طليعة مؤمنة، وجيل قرآني، هو الحال لتخليص المجتمع من حكم الطاغوت».
وهنا فإننا نلاحظ أن هذه العبارة ذاتها هي التي كان يصف بها خالد الإسلامبولي وزملاؤه أنور السادات، مستخدمين الألفاظ ذاتها تقريباً التي قالها سيد قطب، بما يعني أن تأثير ما قبل عام 1964 قد ترك صداه عام 1981 مروراً بحقبة السبعينات، وهو تأثير يفسِّر إلى حد بعيد بعضاً من أسباب حركة الإحياء في أكثر من دولة داخل العالم الإسلامي.
ولا يمكننا بحال من الأحوال القول إن ما أنتجته جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وفي العالم العربي، بل وفي دول آسيوية مسلمة، كان إحياء لصحيح الدين الإسلامي أو لروحه السمحة، بل إن ذلك الإحياء المزعوم كان يحمل معنيين بالغي الأهمية والخطورة:
الأول أن كل الحركات التي نادت بذلك التجديد هي في الأصل امتداد وتفرعات لأفكار جماعة الإخوان المصرية.
الثاني أن الذين نزعوا إلى العنف والإرهاب متمسحين في أهداب الثوب الإسلامي، كانوا يصرون على أنهم يسعون في طريق الإحياء الذي أسَّسَه البنا وجذّره سيد قطب.
ولعل الشبه بين ماضي البنا وحاضر جميع الجماعات الإرهابية المعاصرة مثير للتأمل، فمن جماعة التنظيمين السر الخاص لـ«الإخوان»، أي جهاز الاغتيالات الذي كان يقوم عليه عبد الرحمن السندي، مروراً بالتكفير والهجرة لشكري مصطفي، في سبعينات القرن الماضي، وصولاً إلى «قاعدة» أسامة بن لادن في التسعينات، و«داعش» أبو بكر البغدادي تجد بذور الإخوان الإرهابية في تكفير المسلم المخالف لرأيهم، أو حتى غير المنضم إلى جماعتهم، وغالبيتهم يكفِّرون الحاكم والمحكوم، وحتى لو كان المحكوم مكرهاً يُقتل، ثم يُبعث يوم القيامة على نيته.
استباح «الإخوان» ومن لفَّ لفَّهم دماء المسلمين، ولاحقاً أهل الذمة والمستأمنين، وفي الجزائر قتلوا نساء وأطفال مخالفيهم، وحتى بقروا بطون الحوامل لقتل الأجنة تماماً، كما فعل أسلافهم مع الصحابي الجليل عبد الله بن خباب وزوجته وجنينها. ومن تردي إخوان مصر عرف العالم وهدة سحيقة لجماعات إرهابية متطرفة تجاوزت كل حدود العقل.
عن {كتيبة الإمام البخاري» و{الإخوان}
أكثر من مبرَّر جعلنا نقلب في أوراق «الإخوان» الأيام الحالية، ليتبين لنا وبحق أنهم المعين والحاضنة الأكبر والأخطر لجميع صفوف الإرهابيين حول العالم، ولعل آخر تلك المناخس التي دفعتنا لكتابة هذه السطور ما أقدمت عليه الولايات المتحدة الأميركية من وضع ما يُعرف باسم «كتيبة الإمام البخاري» الأوزبكية على لوائح الإرهاب، وقد نشرت لها بعض المواقع العنكبوتية مقاطع فيديو لمعسكرات لتدريب الأطفال وتعليمهم كيفية التعامل مع الأسلحة وإطلاقها، خلال وجودهم على الأراضي السورية.
مؤسس الجماعة هو صلاح الدين الأوزبكي الذي اغتيل العام الماضي، ويبدو أنه قد شرب من كأس الإخوان حتى الثمالة؛ إذ بدأ مسيرته ضمن صفوف «القاعدة» في أفغانستان، وتم إرساله إلى سوريا من قبل طالبان وسراج الدين حقاني (أحد كبار حركة «طالبان» المرتبط بتنظيم القاعدة)، ولاحقاً انتهى به المطاف داعشياً في سوريا.
لم تتوقف الأعمال الإرهابية للكتيبة بوفاة مؤسسها صلاح الدين، إذ خلفه مباشرة المدعو أبو يوسف المهاجر الأوزبكي، الذي يقود الآن «كتيبة الإمام البخاري» في سوريا، والذي بات يمثل تجسيداً لفكر الإخوان المسلمين على الأرض في تلك الجمهورية السوفياتية سابقاً.
في الأيام الأخيرة من شهر فبراير (شباط) الماضي كان أبو يوسف يُصدر بياناً تعريفياً بجماعته عنوانه «مَن نحن»؟ وقارئ البيان له أن يجزم بالمطلق أن الجماعة تقوم على مرتكزات الإخوان المسلمين أنفسهم، وفي المقدمة من أهداف «الكتيبة» إسقاط نظام الأسد وإقامة حكم إسلامي في سوريا.
أما الهدف الثاني أكثر شمولاً على الصعيد الإقليمي، فهو سعي «الكتيبة» إلى تحرير المسلمين في آسيا الوسطي برمَّتها، ما يعني تصدير المشروع الجهادي إليها مستقبلاً.
«الإخوان» وإرهاب الداخل
«الإرهاب يبدأ فكراً»، هذه حقيقة تؤكدها مجريات أحداث الماضي في الداخل المصري بنوع خاص، ولاحقاً يكون الاستدلال على التوجه نحو الإرهاب المتأسلم مجرد نتيجة حتمية لفكر متأسلم، ولمعرفة جذور عمليات الإرهاب الحديثة وتفكير الحكم والمحكوم، يمكننا أن نعاود قراءة ما كتبه محمد عبد السلام أحد الذين خططوا ونَظَّروا لقتل الرئيس المصري السادات عام 1981، عبر الكتيب الذي سماه «الفريضة الغائبة»، والذي لم يكن إلا خداعاً متواصلاً للذات وللآخرين، وقد سبقه من انخدعوا ولاحقاً انساق إليه آخرون كثر. على سبيل المثال لا الحصر يمكننا الإشارة إلى عبد الله عزام الفلسطيني من مواليد قرية سيلة الحارثية في جنين، الذي يُعدّ المؤسس الرئيسي لـ«القاعدة» في أفغانستان.
لم يكن عبد الله عزام إلا أحد القيادات التاريخية لجماعة الإخوان المسلمين، وقد بدأ انخراطه في صفوف الإخوان عام 1970، ثم عضواً متقدماً فقائداً في «كتائب المجاهدين»، وجاء غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان ليمثل بالنسبة إليه فرصة ذهبية لتأسيس مكتب مهمته استجلاب الشباب العربي لقتال السوفيات، ومن هنا وُلِد ما عُرِف لاحقاً بتنظيم القاعدة، مع ما جرَّته على العالم من وبال وإرهاب، تبدى في أسوأ وأبشع صورة نهار الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) من عام 2001 في نيويورك وواشنطن.
وبالعودة إلى ما قبل محمد عبد السلام نجد أنفسنا أمام ظاهرة أخرى بطلها شكري مصطفى صاحب رؤية التكفير والهجرة، وقاتِل الشيخ الذهبي وزير الأوقاف المصري السابق، ورؤيته تدور حول «المجتمع (الكافر) الذي لا بد من هجره، وأما من لا يستطيع الهجرة بعيداً عن أرض (الكفر)، وجب عليه أن يهاجر بنفسه عن المجتمع (الكافر)، فيترك مدرسته وعمله وأسرته ويهاجر إلى الجماعة ليقيم مع مجموعة من أعضائها، ولينشئوا مجتمعاً خاصاً بهم»، وقد عرفت جماعته بأياديها الملوثة بالدماء في سبعينات القرن الماضي، ولم يكن شكري مصطفى سوى نتاج لفكر سيد قطب فقد نهج نهجه ما جعل سلطات الأمن تلقى القبض عليه عام 1965 في محافظة أسيوط جنوب مصر، وهناك تشرب منابع التطرف من أفكار وكتابات سيد قطب.
ومن عبد الله عزام وقبله شكري مصطفى، لا يمكن لمن يرصد جذور الإرهاب الأعمى أن يغفل «الجماعة الإسلامية»... تلك التي روَّعت مصر والمصريين وقت اغتيال الرئيس السادات، وقد أذاق أعضاؤها أهالي محافظات جنوب مصر، لا سيما المنيا وأسيوط وسوهاج المرّ الكثير، ومؤسسها ورجلها المركزي هو عمر عبد الرحمن، الذي كان مقرباً من جماعة الإخوان المسلمين وعضواً فاعلاً في صفوفها إلى أن تم إلقاء القبض عليه عام 1970، وأدواره في مصر وفي الولايات المتحدة الأميركية معروفة للقاصي والداني.
وينتهي بنا المطاف مؤقتاً مع جماعة تطلق على نفسها «أنصار بيت المقدس»، وتدعي أنها تتخذ من سيناء موقعاً وموضعاً لها، وفي واقع الحال ومن خلال تفكيك آلياتها وتوجهاتها ضد قوات الجيش والشرطة، فإنها تسعى إلى إشاعة الفوضى والفساد والإرهاب، وهدفها إرجاع حكم الإخوان المسلمين في مصر، ومن يقوم بتحليل خطابهم الدعائي، يجد أنه نسخة مكرورة من خطابات «الإخوان» المليئة بالسمِّ الناقع.
«الإخوان» وإيران... الخطر الداهم
يعتبر الغرب الأوروبي والأميركي اليوم إيران الداعم الأكبر للإرهاب حول العالم، ما يستدعي التساؤل: هل من خطوط وخيوط متداخلة بين أعمال «الإخوان» وفكرهم، وبين الإيرانيين ورؤاهم العقائدية وعدائهم التاريخي للمسلمين العرب السنة تحديداً؟
في بحثه عن «التيارات العابرة للوطنية... الإخوان المسلمين وإيران»، يقدم لنا الكاتب والمؤلف والباحث الأستاذ عباس المرشد خلاصةً قيِّمة جداً تفيد بأن هناك «أواصر خفيه لا تنقطع» بين الطرفين.
ويرجع الأستاذ عباس علاقة الإخوان المسلمين بإيران إلى خمسينات القرن الماضي، وتحديداً من خلال زيارة مؤسس «فدائيان إسلام» نواب صفوي لمصر في 1954، ولقائه بزعماء الإخوان المسلمين، ومن ثم دعوته للإيرانيين للانخراط في تنظيم الإخوان، إذ يُنسب لصفوي نفسه أنه قال في حفل خطابي بدمشق (1954) «من أراد أن يكون جعفرياً حقيقياً فلينضم إلى صفوف الإخوان المسلمين».
وكانت فكرة «فدائيان» تتفق مع فكرة التنظيم السري للإخوان المسلمين، حيث وجود تنظيم سري شبيه بالتنظيمات العسكرية، توكَل إليه مهمات الاغتيال وبعض المهمات الخطيرة.
وأثمرت العلاقة بين «الإخوان» و«فدائيان إسلام» نمطاً خفيّاً من الارتباط، تمثل في إقدام رموز الحركة الإسلامية الشيعية في إيران على ترجمة ونشر أدبيات الإخوان المسلمين باللغة الفارسية، حيث تُرجِم «الإسلام ومشكلات الحضارة» وكتاب «المستقبل لهذا الدين».
لم تنقطع الصلات الإخوانية الإيرانية وإن مضت بها المقادير والعلاقة الخفية بين الجانبين سرّاً، ولعل هذا ما دعا مرشد «الإخوان» مهدي عاكف عام 2008، لأن يدافع عن مشروع إيران النووي، رافضاً الحديث عن مد شيعي، ومؤيد نفوذها في المنطقة، وقد قال عاكف وقتها ما نصه: «البرنامج النووي من حق إيران، حتى لو كان الهدف منه إنتاج قنبلة نووية، فهذا حقهم، فأميركا عندها قنبلة نووية، وكذلك إسرائيل وباكستان والهند، فلماذا إيران؟! أليس من حقها؟! فهي دولة ذات سيادة، ومن حقها أن تفعل أي شيء».