توقف رواتب المدرسين يدفع منظومة التعليم في اليمن إلى شلل تام
دفعت الحرب المستعرة في اليمن الآلاف من المدرسين إلى مغادرة مناطقهم تاركين مدارسهم وطلابهم للفراغ أو لمدرسين جدد أغلبهم من المتطوعين دون مؤهلات، فيما ارتكن البعض الآخر منهم إلى العمل بمهن هامشية لتلبية متطلبات العيش لهم ولأسرهم.
وفي مسعى لتحقيق حاجيات أسرته الضرورية إثر توقف الرواتب منذ أكثر من عام ونصف العام، اختار المعلم في الصفوف الأساسية شوقي عبدالله (35 عاما) أن يعمل حمّالا للبضائع بمدينة عبس التابعة لمحافظة حجة، شمالي غرب اليمن.
ومع بداية الحرب الدامية في اليمن خسر شوقي زوجته ومنزله جراء المعارك التي امتدت إلى مديرية حرض الحدودية الواقعة شمال غرب المحافظة، ما اضطره إلى النزوح جنوبا ليستقر مع طفليه في خيمة إيواء للنازحين على بعد كيلومتر واحد من أطراف بلدة عبس.
ولم يكد المعلم، الذي فارق صباحاته الشيّقة مع طلابه الصغار في إحدى مدارس مدينة حرض، يستفيق من حزنه البالغ على فقدانه لزوجته، وهو في هذا المأوى البديل الذي تحفه حرارة الرمال، ليضاعف توقيف الرواتب محنته ويفقدَ بالتالي مصدر دخله الوحيد لإعالة نفسه وولديه الوحيدين.
وفي نوفمبر من العام الماضي 2017، لم تشأ معاناة هذا المدرس أن تتوقف عند ذلك الحد، بل فوجئ كغيره من السكان بجائحة “الكوليرا” التي عمت أجزاء واسعة من محافظة حجة والمحافظات اليمنية الأخرى، ليخطف الوباء منه طفليه محمد (9 سنوات) وابنته سعاد (7 سنوات) في ظل عجزه عن دفع تكاليف الرعاية الصحية اللازمة لإنقاذ حياتهما. ويقف شوقي بسحنته الباهتة وجسده النحيل على مقربة من الخيمة المنغرسة في الكثبان الرملية، وهو يروي واحدة من الوقائع التراجيدية التي أنتجها توحش الحرب، إلا أنها، كما يبدو، ليست سوى بعض من مأساة لازالت تتفاقم وشيء من الوجع لا يزال يتسع.
ويقول شوقي وهو يغالب دموعه “وقفت عاجزا أمام علاج محمد وسعاد من وباء الكوليرا. توقف الراتب وفقدنا كل مدخراتنا، ومع تهدم المنزل لم أعد أملك شيئا”. ويتابع “أصبحت وحيدا جائعا وعاريا أقف على هذه الكثبان أبكي مصائر من رحلوا وعجزي وفقري وهواني على الناس”. ويضيف “كنت أعمل معلما لمادة العلوم بمدرسة الوحدة، الآن كلما رأيت أحد طلابي النازحين مع أسرهم إلى مدينة عبس، أشعر بنظراته تجلدني بسياط الهوان والذل وهو يراني أعمل حمّالا أمام المحال التجارية حتى أسد جزءا من متطلبات الحياة”. ويحس شوقي بأنه “يموت في اليوم آلاف المرات إن كان الناس يموتون مرة واحدة ويستريحون”.
ويقول ماجد مقبول، وهو وكيل مدرسة أساسية في عبس، “بعد توقف الرواتب أصبح المئات من المدرسين يعيشون ظروفا قاسية، والكثير منهم نزح من المديريات الشمالية من حجة (ميدي- حرض- حيران- مستبأ- بكيل المير) إلى مناطق أكثر أمنا جنوبي المحافظة ووسطها، إضافة إلى الآلاف من الطلاب الذين توقفوا عن الدراسة بسبب ظروف أسرهم أو التحقوا بمدارس بديلة في أماكن النزوح”.
ويؤكد المدرس هادي زين، الذي يعمل مديرا لمدرسة النور، أنه منذ بدأت الحرب انقلبت حياة المدرسين رأسا على عقب لكنها باتت أكثر مأساوية بعد توقف الرواتب. ويضيف “تسرّب الطلاب من المدارس أحدث خللا مفجعا في بنية المجتمع وفي موقفه من الحياة ومن التعليم بصفة عامة وفي قناعاته وتصوراته الذهنية. لم نعد نستقبل العدد المعتاد من الطلاب كما أن نظام العملية التعليمية أصبح أكثر هشاشة بعد التوقف عن دفع رواتب المدرسين الذين تضطرهم الحاجة إلى خلق بدائل تحفظ لهم قيمتهم في الحياة ووجودهم”.
ويحكي زين قصصا عن مدرسين، قال إن العجز والعوز دفعاهم ليصبحوا عالة على ما يجود به عليهم مزارعو نبتة “القات” (يمضغها اليمنيون على نطاق واسع وتصنف في بعض الدول ضمن المواد المخدرة)، إلى جانب قسم آخر من المدرسين من ذوي الأمراض المزمنة، أكد زين أنهم باتوا نهبا لأمراضهم جراء عدم قدرتهم على شراء الأدوية بسبب توقف رواتبهم.
أما المدرس علي صالح، الذي يعمل في مدرسة الثورة بقرية “المخلاف” بمديرية قفل شمر في محافظة حجة نفسها، فقد أجبرته ظروف الحرب وتوقف الراتب على تأجيل حلمه في تحضير الماجستير، وجعلته يتوسل رزقه عبر العمل على دراجة نارية لنقل الركاب.
ويقول “ربما كان حالي أحسن من غيري فمنذ توقف الراتب وأنا أعمل على دراجة نارية لأتدبر الجزء اليسير من ضرورات الحياة، لكني في أحيان كثيرة أكون عاجزا عن تدبير قيمة العلاج إن مرض أحد أفراد الأسرة”.
66 بالمئة من المدارس في اليمن تضررت بسبب العنف و27 بالمئة أغلقت
ويضيف “الحياة كانت بالغة التعقيد للمدرسين في اليمن في ظل الظروف الاعتيادية وانتظام الراتب الشهري، فما بالك بوضعهم مع انقطاع الراتب والأثر الذي يتركه على نفسيتهم وتفاعلهم وعطائهم”.
ومن جهته يؤكد المسؤول التربوي يحيى الصبيحي، الذي يعمل مديرا لإدارة التربية والتعليم في مديرية قفل شمر أنهم فقدوا السيطرة على مقاليد العمل في المدارس بسبب توقف الرواتب وانقطاع تمويل متطلبات العملية التعليمية وهو ما يهدد، على حد قوله، بشلّ النظام التعليمي كليا.
ولا يفوت الصبيحي أن يشير إلى مشكلة تحويل بعض المدارس إلى مراكز لإيواء النازحين، إضافة إلى عزوف أولياء الأمور عن الدفع بأبنائهم للمدارس، وبحث المدرسين عن بدائل توفر لهم قدرا من العيش، وكلها في نظره “معوقات جوهرية تجعل المستقبل غير آمن وضبابيا ومجهولا”.
وهذه القتامة التي باتت تلف الوضع التعليمي في اليمن لا تشمل محافظة بعينها لكنها أضحت تمس جميع المحافظات تقريبا، وهو ما دفع اليونيسيف إلى التحذير من خطورة استمرار الأوضاع على ما هي عليه دون إيجاد حل لمسألة رواتب المدرسين وضمان سلامة الطلاب من قبل أطراف الصراع.
وتقول ميريتشيل ريلاينو، ممثلة اليونيسيف في اليمن، إن “جيلا كاملا من الأطفال في اليمن يواجه مستقبلا غامضا بسبب محدودية أو عدم إمكانية حصوله على التعليم”. وتضيف قائلة “حتى أولئك الذين ينتظمون في المدارس لا يحصلون على التعليم الجيد”.
ووفقا لتقرير للمنظمة الدولية بعنوان “خارج المدرسة: أطفال اليمن ودروب الضياع”، فإن أكثر من 66 بالمئة من المدارس في اليمن تضررت بسبب العنف الشديد و27 بالمئة أغلقت و7 بالمئة من المدارس باتت تستخدم لإيواء الأسر النازحة أو من قبل جماعات مسلحة.
ويكشف التقرير الصادر حديثا أنه لم يتم صرف رواتب الكوادر التعليمية العاملة في ثلاثة أرباع المدارس الحكومية منذ أكثر من عام مما جعل تعليم قرابة 4.5 مليون طفل على المحك. كما أشار إلى وجود نحو نصف مليون طفل يمني تسربوا من المدارس منذ بدء الحرب في 2015، ليرتفع عددهم إلى نحو مليوني طفل موجودين خارج نطاق التعليم.
ويقر مسؤولون تربويون في اليمن أنه بسبب تداعيات الحرب بات الذهاب إلى المدارس يمثل خطرا على الطلاب، حيث يمكن أن يتعرضوا لاحتمال الموت في أي لحظة، وخوفا على سلامتهم يفضل الكثير من الأولياء بقاءهم بالمنازل.