تحليل: تنامي الدور الصيني في المنطقة العربية
في ضوء تطورات الأحداث السياسية والتغيرات الإقليمية والدولية التي شهدتها المنطقة العربية، بات من المؤكد أن الصين تسعى الى تحقيق أهداف محورية سياسية واقتصادية في منطقة الشرق الأوسط في ظل اشتعال المنطقة بالأزمات والاضطرابات وفشل السياسة الأميركية في حلها من جهة واشتعال الحرب الروسية الأوكرانية دون وجود سقف محدد لنهايتها من جهة أخرى.
تقوم استراتيجية الصين فى منطقة الشرق الأوسط على التأكيد علي التنمية كحل لمشكلات المنطقة وتطبيق نموذج تنموى يحتذى به، والتركيز علي الشراكة وليس التحالفات، وإدراك حقيقة هامة مفادها : كلما زادت الصين من دورها في المنطقة العربية ومحيطها الإقليمى كلما زاد تأثيرها العالمي. هذا ما تسعى الصين لتحقيقه بكل إمكانياتها وقدراتها، كما أن التغير الهائل الذى أحدثه الحرب الروسية الأوكرانية فى موازين القوى الدولية، بالتزامن مع تواجد اقتصادى صينى متزايد أدى إلى انخراطها على نطاق أوسع مع دول المنطقة بطرق قد تؤثر بشكل كبير على المصالح الأوروبية والأمريكية. وهو ما ينبئ بتغييرات كبيرة فى التنافس الدولى والإقليمى على المنطقة خاصة مع أفول نجم القارة الأوربية العجوز وتراجع الهيمنة الأمريكية إذا أضفنا لكل ذلك انطلاق مشروع الحزام والطريق نجد أن بكين ستصبح عاجلاً أم آجلاً القوة الأكثر تأثيراً في السياسات الإقليمية والعالمية.
شكّل بيان بكين مفاجأة مذهلة، حيث تم الإعلان عن اتفاق ينص على إعادة العلاقات بين السعودية وإيران وتأكيد الدولتين احترام سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية، إضافة إلى تفعيل اتفاقية التعاون الأمني الموقّعة عام 2001.
المضامين السياسية وأبعاد الاتفاق كانت مفاجئة، فالأمير محمد بن سلمان أقدم على خطوة أزعجت الغرب ولا سيما أنها أتت بوساطة صينية. الدور الذي أدّته الصين أحدث خضّة في الغرب، فالدولة الآسيوية الكبرى خرجت من سياستها الخجولة لتعلن الاتفاق على أرضها بعد أن كانت واشنطن تقود هذا الدور عالمياً.
تشارك الصين بشكل كبير في شؤون الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة. في حين أن مشاركتها الاقتصادية موضع ترحيب من قبل الأطراف الإقليمية، فإن المخاوف السياسية والأمنية تخلق عقبات أمام اعتبار الصين قوة عالمية مركزية في الشئون الإقليمية في الشرق الأوسط.
الصين، وكقوة صاعدة، تعرض خدماتها في مجالات عدة على دول الخليج العربي منذ أكثر من عقدين من الزمن، فهي صاحبة مشروع طموح بإعادة إحياء طريق الحرير لتعزز قوتها الاقتصادية عالمياً وتوسيع دائرة نفوذها دولياً. ويمكن مقارنة هذا المشروع بما قامت به الإمبراطورية البريطانية بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر عندما استخدمت شركة الهند الشرقية للسيطرة على موانئ وخطوط بحرية بين آسيا وأوروبا وحتى أستراليا. ومع بداية القرن الثامن عشر كانت تسيطر الشركة على أكثر من نصف التجارة العالمية وامتلكت نفوذاً واسعاً استفادت منه الحكومة البريطانية في تعزيز مكانتها السياسية عالمياً كقوة عظمى. وإذا ما أجريت مقارنة اليوم مع النقاط التي تمر فيها طريق الحرير الصينية البحرية، نجد أوجه شبه كبيرة في السيطرة على الحركة التجارية في المحيط الهندي والموانئ المطلة على البحار في الطريق إلى أوروبا وشرق أفريقيا.
تشكل منطقة الخليج العربي منطقة استراتيجية للصين. فهذه المنطقة هي مصدر الجزء الأكبر من النفط والغاز للصين كما أنها تشكل سوقاً حيوية للمنتجات الصينية، إذ شهدت الصناعات الصينية التكنولوجية والإلكترونية نقلة نوعية كبيرة خلال العقد الماضي حيث باتت تعتبر منافساً قوياً للمنتجات الأميركية واليابانية والكورية والأوروبية التي كانت تسيطر على الأسواق في الماضي.
فزيارة لمتاجر الهواتف والأدوات الكهربائية والإلكترونية في دول الخليج تظهر مدى انتشار المنتجات الصينية والتي تعرض في الواجهات بدل المنتجات الغربية. حتى سوق السيارات بات يحتوي على حصة مهمة للمنتجات الصينية. ومرد ذلك أن الاعتقاد الذي كان يسود في الماضي في أن المنتجات الصينية هي تقليد سيّئ لمنتجات روسية أو غربية قد زال من أذهان غالبية المجتمع وباتت هناك ثقة متزايدة بالمنتج الصيني. هذا تغيير مهم في رؤية المجتمع للصين وينعكس ايجاباً على التصور الذي يكوّنه المجتمع للأمور الأخرى التي مصدرها الصين، وهذا أمر لا يبدو أن الغرب قد أدركه.
وعلى الرغم من أن أميركا لا تزال حتى اليوم القوة المهيمنة في الشرق الأوسط وتحديداً في منطقة الخليج العربي,الا أنها تواجه صعوداً قوياً للصين لن يكون سهلاً إيقافه بخاصة أن هذا التواجد هو موضع ترحيب وقبول من جزء مهم من مجتمعات وقيادات المنطقة.
وبناء عليه، فإن المنطقة تتجه ليكون فيها قطبان مهيمنان لا قطب واحد كما الحال مع أميركا اليوم. قيادات دول الخليج توازن اليوم بين علاقتها القوية مع أميركا وتلك المتنامية مع الصين. فهذه الدول تملك مقدرات ومقومات تجعلها مهمة للطرفين ما يمكنها من حفظ التوازن في العلاقات وعدم الانحياز الى طرف ضد الآخر. نجاح الاتفاق الإيراني - السعودي سيعزز الدور السياسي للصين ويفتح الطريق لها للعب دور أمني لاحقاً.