كيسنجر على حافة التاريخ

بعمر المائة عام، ذهب هنري كيسنجر إلى الصين غريم بلاده الولايات المتحدة في مشهد آخر من الوقوف على حافة نهاية التاريخ التي كان قد بشر بها. فرانسيس فوكوياما باستدعائه لمصطلح «جورج هيغل»، واضعاً حداً لصراع الرأسمالية والاشتراكية، معتبراً فوكوياما أن سقوط جدار برلين في 1989 نهاية للتاريخ، وأن عهد الليبرالية سيسود العالم، وهذا ما جرى عملياً بخضوع العالم لسياسات ما سمي بالقطب الواحد والسيطرة المطلقة للرأسمالية على كل شيء، ولم يعد للشعوب غير أن تعيش في نهاية التاريخ، كما زعم المنتصرون بعد حرب باردة امتدت لعقود.
الليبراليون الجدد كانوا قد نسجوا عبر العولمة خيوطهم حول البشرية كلها، فتحولت حياة الناس إلى ماديات كاملة، سياسات كرستها الهيمنة الأميركية عبر منظمات دولية من البنك الدولي، ومروراً بمنظمات حقوق الإنسان، وغيرها من الهيئات الدولية التي يمسك بها مجموعة محددة من الناس أخضعوا دولاً وشعوباً لإرادة أحادية، لم تعد الديمقراطية وسيلة للتداول السلمي والتعبير الحر عن الرأي بمقدار ما تحولت سياطاً تألمت منها الشعوب التي شعرت بالإذلال بدلاً من أن تشعر بالعدالة والحرية والمساواة، وهي القيم التي يوزعها دعاة الليبرالية الحاكمون للأرض ومن عليها.
الصعود الصيني لا يمكن تأطيره في سياق أن زعيماً للحزب الشيوعي تقدم بشجاعة انفرادية ليدمج بين الاشتراكية والرأسمالية وينتج منتجاً مختلفاً ومتماسكاً ليمضي به في مواجهة سطوة الليبرالية، فلولا الحافز عند شعب الصين للتخلص من تلكم السطوة ما كان باستطاعة شي جين بينغ أن ينجح في إحداث كل هذه النقلة الكبيرة ليس ببلده بل بعشرات البلدان التي وجدت المخرج الممكن مما أحيط بها من شبكة الماديات المعقدة، فلم يعد الحُلم الأميركي الذي لطالما داعب الشعوب مستساغاً حتى في الداخل الأميركي نفسه، الذي انقسم على نفسه، وما أحداث «الكابتول» العظيمة في 6 يناير 2021 غير مشهد من مشاهد الأمة المنقسمة عمودياً.
جمعت الصين حولها مجموعة من الدول الناشئة اقتصادياً، فشكلت ثقلاً ليس موازياً لما تمتلكه الولايات المتحدة والغرب، غير أنه دفع ناحية القبول بتغيير النظام العالمي والاستعداد لولوج شكل من التعددية القطبية غير المنظورة في الأبد المتوسط والبعيد، غير أنها مقبلة، بحوامل التصادم العسكري على حدود «الناتو»، والتلويح بالضغط على الزر النووي الروسي، ونشر الأسلحة النووية التكتيكية في خارج الحدود الروسية يبدو أن الصراع العالمي يوشك على ما هو أكثر من مجرد حرب محدودة الجغرافية السياسية، وهو ما استدعى بالثعلب الهرِم أن يكرر ما فعله عام 1971 عندما توجه سراً إلى بكين لينزع فتيل مواجهة كادت أن تعصف بالعالم، وأنهى حرب فيتنام ومهد لزيارة الرئيس نيكسون ولقائه بالصينيين، ليشكل توازناً في السياسات الدولية يكاد يوشك على الانهيار مع شدة الاستقطاب السياسي.
إن كان العالم يعيش لحظة أفول لنظام وصعود لآخر، فإن المخاطر أكبر من الإحاطة بها، فلا سلاسل إمداد الغذاء والطاقة تستطيع تحمل التكلفة الاقتصادية بعد جائحة «كورونا»، وما كشفت عنه من حقائق، كما أن التغيير المناخي لم يعد قضية يمكن لأحد تأجيل حلّها، فالفيضانات والاحترار والجفاف ينعكس على كوكب كما يعيش عليه الليبراليون الجدد يعيش عليه غيرهم.
عند هذا الحد تبدو حوافز تحرك هنري كيسنجر ماضية في اتجاه واقعية سياسية تامة، فهو يقاتل من أجل نزع فتيل مواجهة غير ضرورية للبشرية، فلذلك تبدو المغامرة، وإنْ كانت محفوفة بالتشاؤم كأنها فرصة تستحق أن تعزز من قبل أطراف أخرى عليهم أن يساهموا مع الرجل العجوز على الابتعاد ولو خطوة للوراء عن حافة التاريخ أو بالأحرى حافة الهاوية.