74 مليون دولار صنعت مجداً
هاني مسهور
- في 30 نوفمبر .. فجر الاستقلال الثاني
- لحظة لإفاقة العقل اللبناني
- حتى لا تكون بيروت عدن أخرى
- من شيخان الحبشي إلى عيدروس الزبيدي .. الاستقلال يعنى الاستقلال
«عند القيام بشيء ما، افعله بالحب أو لا تفعله على الإطلاق»، هذه المقولة من إرث المهاتما غاندي، ويبدو أن ناريندرا مودي قد استوعبها تماماً وسار عليها، فهو بالفعل أحب بلاده، التي كانت إلى قبل عقدين فقط يُشار إليها بأنها من أفقر دول العالم، لم نر الشعب الهندي ملتفاً حول نفسه كما رأيناه في مشهدين لا ثالث لهما، فمن مشهد الاستقلال الوطني وحتى هبوط المركبة الفضائية على سطح القمر تَشكَّلَ مشهدا التاريخ الهندي المعاصر، وهذه فرصة ليس لمشاركة هذه البلاد فرحتها في كونها رابع دول العالم التي تصل إلى القمر، بل للتأمل في ميزانية المشروع الفضائي الحالم.
74 مليون دولار أميركي تكلفة المشروع الفضائي لبلوغ سطح القمر، بهذه التكلفة صنعت الهند التاريخ وأرسلت للعالم رسالة عميقة أن بالإمكان صناعة الأشياء الكبيرة بموارد مالية محدودة، عندما تؤمن الشعوب بشيء يمكنها أن تحققه، فالأموال ليست كل شيء وليست هي مقياساً للنجاحات، فهي تظل الوسيلة للغايات، حققت الهند المعجزة بمحاولتها الثانية بعد أن كادت تفعلها في 2019، لكن المركبة تحطمت عند الهبوط ومع ذلك لم تتوقف جهود الوصول حتى فعلتها في 2023.
حولت الهند أزمة عدد السكان المتضخم إلى ثروة نهضت بالاقتصاد عبر التعليم المجاني، وحتى والعالم كان ينظر إلى الهنود باعتبارهم يداً عاملة رخيصة نظر الهنود إلى أنفسهم نظرة مختلفة فيها كثير من الاعتقاد أنهم أمّة عريقة يمكنهم بالتعليم أن يخرجوا من أزماتهم، وحتى في الوقت الذي استعانت خلاله شركات التكنولوجيا الكبرى بهم كأيادٍ عاملةٍ متخصصة رخيصة تعمل في البرمجيات والصناعات التكميلية لأجهزة الكمبيوتر كان الهنود منشغلين أكثر في تمكين الصناعات داخل بلادهم لخلق أكبر قاعدة من فرص العمل لكافة الطبقات الاجتماعية. انتهزت الهند الصعود الصيني، وعملت على أن تضع قوانين وتسهيلات تجارية واسعة استقطبت بها المصانع، حتى أنها أصبحت ثالث أكبر بيئة حاضنة للشركات الناشئة في العالم.
النمو الاقتصادي الهندي لم يكن منشغلاً في الصناعات الرقميّة فحسب، بل إنهم لم يتركوا ثروتهم الأصيلة الكامنة في الزراعة، قفزت الصادرات الزراعية لمستويات قياسية واعتمدت الحكومات سياسات غير تقليدية لضمان رفع جودة الإنتاج بهدف المنافسة العالمية، وهو ما منح الهند فتح أسواق متعددة.
البنية التحتية شكلت معضلة وستبقى كذلك، وهذا تحدٍّ جسيم على الحكومات التعامل معه، فحوادث القطارات لا تكاد تتوقف، وهذا ما يعني أن عملاً حيوياً يجب بذله في هذا الاتجاه، الديمقراطية ذاتها تشكل في هذا البلد تحديّاً صريحاً لتعدد الأعراق والأديان، وهو ما يعني بأن جرعات التعليم يجب زيادتها لتمكين التجانس الشعبي والوطني. فكلما اتحد الشعب، تضاءلت فرص الانقسام السياسي الداخلي.
الهنود يطمحون ليكونوا قاطرة اقتصادية بناتج محلي يكسر الخمسة تريليونات دولار، هذا ما سيضعهم كواحدة من أكبر اقتصاديات العالم في 2030، الهنود الذين عرفناهم في منطقتنا وتعايشنا معهم، ها هم يذهبون أبعد مما نراهم برغم أنهم ما زالوا يعيشون معنا ونعرف بأنهم يكدون من أجل تعليم أبنائهم وبناتهم، هذا هو شعب نعرفه ويعرفنا، نراه يصنع أشياء من اللاشيء، ففيما نبدد ثرواتنا في استهلاك الترفيه والمناسبات العابرة، يحاول غيرنا الاستثمار فيما هو ممكن أن يصنع به ما يبهرنا ويشبع به رغباته.
ملهمة هي قصة بلوغ الهنود إلى سطح القمر، فعندما تخلو الميزانيات من الفساد ويتمكن العقل من المال، يصنع ما صنعته الأيادي الهندية التي كنا نعتقد أنها رخيصة، بينما هي في الحقيقة أغلى بكثير مما نعتقد. الأمم تحيّا بهكذا بلوغ وهكذا أفعال، فلا أحد سيكترث بما تمتلك من ثروات، بمقدار ما سينظر لك العالم باحترام وتقدير بما تصنع من المجد ولو بمبلغ 74 مليون دولار فقط.