درنة وما بعدها

فاجعة درنة الليبية أكدت أنه لا أحد يمكنه بعدها تجاهل حقيقة التغيرات المناخية وتأثيراتها على الكوكب. ولا شك أن تحولّ منخفض جويّ إلى إعصار مدمرّ بهذه القوة يدعو إلى قدرٍ كبير من المسؤولية لاستيعاب أن لا أحدَ إطلاقاً معصوم في الأرض لتحمل تبعات المتغيرات المناخية، فمن الصيف الأكثر سخونة في التاريخ إلى هذه الكارثة التي غيرت جغرافية بلد بالكامل وابتلعت ربع مدينة بأهلها وسكانها، فهذه مجريات واقعية تتطلب استدعاء عاجلاً لقرارات أممية تحدّ من هذه المتغيرات المناخية التي يصعب حتى مجرد التنبؤ بها.
إلقاء الاتهامات بين الليبيين عن الإهمال في معالجة البنى التحتيّة التي لم تستطع مقاومة كميات الأمطار الكبيرة لا يجب أن تبعد المجتمع الدولي عن حقيقة المسببات الفعلية لهذه الكارثة، الانقسام السياسي الليبي مسألة من المؤكد أنها واحدة من إسهامات الفشل في مواجهة الإعصار دانيال لكن الأهم يبقى في التغيّر المناخيّ الذي يتعين النظر إليه كتحدٍّ يتطلب قراءة موضوعية.
فهذه الحادثة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، فلقد سبق وأن شهد العام الماضي جفافاً واسعاً أصاب العديد من الدول قابله نزول كميات مطريّة كبيرة أحدثت سيولاً وفيضانات تضررت منها دولٌ متماسكة سياسياً كما حدث في تركيا واليونان وجزيرة هونغ كونغ وحتى حرائق الغابات في الولايات المتحدة وكندا وهي من الدول الأقوى اقتصادياً ورغم ذلك لم تنج من التغيرات المناخيّة. في العام 2015 ضرب إعصار تشابالا أرخبيل سقطرى وحضرموت وشبوة في جنوب الجزيرة العربية، وهذه منطقة معتادة على المنخفضات الجويّة المدارية بحكم موقعها الجغرافي في بحر العرب والمحيط الهنديّ، غير أن ما حدث هو تحول مفاجئ زاد من قوة المدار وحوله إلى إعصار مدمّر من الدرجة الرابعة. ما خلفه الإعصار من آثار كان كارثياً ورغم السنوات فما زالت معالجة تأثيراته قائمة نظراً لذات الوضع الذي تعيش فيه ليبيا من حرب وانقسام سياسي.
الكوارث الطبيعية في المنطقة العربية تزيد من التكلفة الاقتصادية على شعوب تعاني من مشاكل في البنية التحتية، مما يدفع لمزيد من الفقر والتشرد والأخطر في هذا الجزء من العالم وجود التنظيمات المتطرفة والمسلحة، التي بدورها تجد من هذه الكوارث فرصة لاستقطاب الأفراد وتوجيههم لأجنداتها الإرهابية.
الاحتباس الحراري وتغير المناخ رفعا من درجة حرارة الأرض وأديا بطبيعة الحال لتزايد هذه الظواهر المناخيّة المتطرفة، عالمنا العربي معنيّ بهذه التغيرات، وعليه أن يستيقظ، فحقيقة هشاشة الدول تستدعي هذه اليقظة، عندما ضرب الزلزال سوريا تعرف العرب إلى أن هذا البلد لا يكاد يمتلك قدرة على المواجهة، وبرغم التضامن الشعبيّ الواسع، فإن شيئاً من ما كان يجب استدعاؤه أهمية التوعية بدور الأفراد في مسؤوليتهم حول المناخ وكيف يمكن زيادة الوعي العام بالتصرفات والاتجاه إلى التنمية المستدامة عبر التقليل من الاستخدامات المفرطة في كل ما يزيد من التغيرات المناخية، السلوكيات الفردية العربية يجب أن تتغير لتتماشى مع التحديات الدولية.
يستعد العالم إلى انعقاد مؤتمر الأطراف (كوب 28) الذي تستضيفه دولة الإمارات العربية المتحدة في مدينة إكسبو دبي، وهذا المؤتمر نقطة محورية بعد سلسلة المؤتمرات المناخية وتحديداً مؤتمر باريس 2015، والمنتظر أن تقوم دولة الإمارات في هذه النسخة بدفع المجتمع الدولي لتبنّي قرارات للحدّ من التغيرات المناخية ومواجهة التطرف المناخيّ.
قمة الأطراف ستقدم أطراً واقعية وتدفع الدول العربية لتحمل المسؤوليات المناخية. فالتكلفة الباهظة التي تتكبدها هذه الدول تتطلب التزامات واضحة، والانتقال إلى الطاقة المتجددة والمستدامة واستنساخ التجارب الناجحة في إنتاج الطاقة الشمسية والنووية والرياحية، بالفعل هي موجودة في الإمارات ومصر والمغرب والمطلوب توسيعها مع توعية الشعوب للتعامل مع هذه الموارد المستحدثة فلا أحد بعد ما حدث في درنة معصوم من خطر التطرف المناخيّ.