تعايش الفسيفساء

تعايش الفسيفساء

د . حسن مدن

المزيد

يعترف الدستور الهندي بـ 21 لغة، هي التي يشكل عدد الناطقين بها الأكثرية، ومع أن نحو 74% في المئة من السكان يتكلمون اللغة الهندية؛ أي أنهم يشكلون الأكثرية الساحقة، فإن ذلك لم يحل دون الإقرار بالتعدد اللغوي والثقافي في البلد، حيث يتكلم نحو 24% من السكان باللغة الآرية، بينما تستعمل اللغة الإنجليزية على نطاق واسع في التدريس والعمل.

لكن هناك عدد لا يحصى من اللغات التي يطلق عليها اللغات الكلاسيكية، مثل السنسكريتية والتاميلية والكانادا والتيلجو، إلى جانب وجود اللغة الهندوإنجليزية، وهي مزيج ما بين اللغتين، وتُستعمل على نطاق واسع، إضافة إلى اللغة الهندوأوروبية.

وتشير بعض المصادر إلى وجود أكثر من 1500 لغة فرعيّة تُستخدم في الهند على نطاقات ضيّقة، في القرى والجماعات ومنها لغة بجرية، ولغة برجية، ولغة بنجابية، ولغة بوجبورية، ولغة بودووية، ولغة بيشنوبريا مانيبورية، ولغة تاميلية، ولغة تيلوغوية، وغيرها.

هذا، باختصار شديد، ما يتعلق باللغة، أما على صعيد الأديان، فإن الأمر ينطوي هنا أيضاً على قدر كبير من التنوع، فعلى أرض الهند نشأت الهندوسية والبوذية والجاينية والسيخية، في حين أن الزرادشتية، واليهودية، والمسيحية والإسلام، وصلت إليها في الألفية الأولى الميلادية، وشكّلت هذه الديانات والثقافات التنوع الثقافي للمنطقة.

هذه الفسيفساء اللغوية والثقافية والدينية، شديدة التعقيد، كان يمكن أن تتحول إلى عامل تنافر وحروب أهلية مديدة، تفكك الكيان الهندي، ولكن هذا لم يحدث.

صحيح أن كلاً من باكستان وبنجلاديش، كانتا في البداية كياناً واحداً، انفصلتا عن الهند، قبل أن تنقسما بدورهما إلى دولتين، لكن ظلت الهند دولة كبيرة شاسعة المساحة، كبيرة في عدد سكانها، محافظة لا على وحدتها فحسب؛ وإنما على التعايش الخلاق في إطار هذه الوحدة، فما أكثر الكيانات الموحدة التي تقيم وحدتها وتبقيها بالقسر والقهر، حيث تتعرض الأقليات فيها للقمع والتمييز، وتحرم حتى من حقوقها اللغوية والثقافية، وفي بعض الحالات حتى من حرية ممارسة شعائرها الدينية.

لماذا إذاً استطاعت الهند أن تبقى موحّدة، وتصبح دولة عظيمة من حيث تطورها الاقتصادي، ومستوى التعليم فيها، الذي يُشهد له بمواكبته لثورة الاتصالات والتقنية، حيث تمتلك عدداً من أفضل المعاهد العليا في تقنيات المعرفة، التي تُعدّ خريجين وخبراء مرموقين عالمياً؟

الفضل الأساس في ذلك يعود إلى الديمقراطية التي تقر بالتنوع والتعدد وتحترمهما، وتهيء البيئة المناسبة للتعايش المشترك، على أسس المواطنة الواحدة، التي لا تعرف استثناءات، إن بالمحاباة أو بالتمييز، وبتوفير منظومة تشريعية وقضائية حديثة وفعالة، تراقب أداء السلطات التنفيذية، على صعيد المركز والولايات.

إذاً، فليس عدم التجانس الديني أو المذهبي أو القومي، هو سبب تفكك كياناتنا العربية، وإنما غياب الديمقراطية، فالتنوع بوجود الديمقراطية، يصبح عامل إثراء وتقدم، وفي غيابها يتحول إلى عامل فرقة وتناحر.