في رحيل المحامية راقية حمدان

د . اسمهان العلس

الأشجار تموت واقفة ، وإن ماتت راقية فقد تركت أوراقها في الأرض ليستديم عطاؤها .....

اخترت محادثتك والجدال معك كما تعوّدنا في عمان على كرسيين متقابلين . تتصدر عدن حديثنا وتختار لنا المواضيع بل والعبارات وتنتزع من بين الشفاه الأنّات فينغرز في قلبينا الألم ويتوسد القهر في الضلوع . فأقبلي منّي هذا الحديث يوم رحيلك .

وحتما سيستمر معك الحديث وستستطيب لساني بذكرك في كل مشهد سأواجهه في غيابك .

ليس نعيا ولا تعزية . لكنه حزن يستقر في النفوس وقهر يهدّ الروح ، وأنت في هذه الساعة من عصر الفاتح من عام 2018 يحتضن تراب عمان جسدك النحيل .

تلك المدينة التي استطال بها بقاؤك بهدف العودة ، لكن الله اختارلك في ثراها استدامة ، وأنت التي كنت تجوبين بقدميك شوارعها القديمة وأزقّتها التاريخية وأسواقها التقليدية بحثا عن وجه الشبه والتقارب بين عمان وعدن ، بل وتستنهضين في نظامها وحسن إدارتها ملامح عدن السابقة .

لكن عدن لن تغيّب شوارعها وترابها حضورك . و لن يسكت صوتك في ساحات الحق والقانون . وستظل هبتك وهيبتك وصوتك العالي في وجه الخطأ والظلم ترتعد له أبدان الضعفاء وبائعي الضمائر والأجساد في أسواق المال والشرف والحق، وما أكثر هؤلاء اليوم .

في زيارتي القادمة لعمان لن تكوني هناك . ولن أحدثك عن عدن ، فقد خبأت لك في أجندتي الكثير عمن عبث عدن وسعى إلى تجريفها وزوّر تاريخها واقتلع من جذورها سمات عمرانها وشوه تاريخها وأقتصّ من بحارها وقطع عنها سمات الريادة و التمدن وأنكر عليها أقديمة التاريخ بها وأقصى شخوصها .

فقد كنت أنوي أن أحدثك عن جديد في عدن لا تعرفينه. أنهم يمارسون تجريف هذه المدينة . والتجريف غير العبث والترييف اللذين عاصرناهما .

التجريف اعتلاق من الجذور لكل جميل في وجه عدن– ملامح وقدرات وشخوص وشواهد بل سلوكيات حضارية فاستقرّ في شوارعها كل شيء غريب من خصائصها التي تحبينها وربما لن تهتدي إلى أحيائها الأصلية التي تحبينها وبيوتها بل وجوه أهلها لو شاء لك الله أن تعودين إليها بل وربما تبدين غربية في وجوه ساكنيها اليوم. ولاشك وأنت بعيدة عن وجه الحياة بين يدي رحيم غفور ستستشعرين مصابها مثل إبنة حنونة لأم رؤوم .

كنّا نحتاج إلى صوتك في وجه التجريف والظلم والإبادة . الكل يجرف عدن بمفهومه ، حتى أولئك التي فتحت لهم حضنا دافئا وصنعت لهم أسماء وعناوين .

لو كنتي في عدن . ولو كنتي في عدن حتما ستكون في أجندتك الحياتية والعملية هذه القضايا لتدافعين عنها .

طوبى لك يوم قررتي الرحيل قبل أن يبدأ العام الجديد ويختط في سجله ما يوغر في قلبك جراحا جديدة عن عدن .

برحيلك اليوم في كل بيت في عدن حزن وقهر . فالحزن واجب ........... والقهر فريضة .

وفي غيابك اليوم يتساوى الحزن والقهر عن عدن وأنت .كما سيفضي بنا فقدك اليوم إلى افتقادك بشدة غدا . نعم فقدناك اليوم لكننا سنفتقدك في عدن كل يوم وفي كل قضية وفي منعطف وعند كل مأزق ندخل به كالفئران لا نعلم إلى أين؟؟؟؟؟؟ . 


الافتقاد يأتي بعد الفقد يوم نبحث عن شخوص انسحب وهجها وغاب ضوئها لكن نفتقدها عندما يعز الرجال ولا يجود الزمان بمثلك " والرجال مصطلح للحضور والقوة وليس مصطلح ذكوري" يوم يحيط بنا كل شيء إلاّ المواقف التي ننشدها .

لكنك لن تكوني إلا معنا حتى في غيابك . ستكونين كلمة صدق وموقف شجاع وصوت يجب أن يسكت كل الأبواب التي صارت تملأ الآذان ضجيجا .

ستكونين رجالا ونساء تشربوا بقيمك وموافقك ورضعوا من منهلك ما يستوجب عليهم الباقى أنقياء في وقت أشتدت فيه الوسخ .

طوبى لك يوم قررتي الرحيل قبل أن يبدأ العام الجديد ويختط في سجله ما يوغر في قلبك جراحا جديدة عن عدن .

استدام بقاؤك في ذاكرة التاريخ . فهي لك ولكل الشرفاء مستقرا وخير مقاما . هناك فقط لن تمتد يد التجريف إليها . وفيها لن تستبدل الصور بصور أخرى . فقد اختارتك عدن هناك .


مقالات الكاتب