القضية الجنوبية وإشكالية الهوية 1

د. عيدروس النقيب

يبدي الكثير من الإخوة السياسيين والإعلاميين اليمنيين المؤيدين لنظام الحكم (السابق والحالي) في اليمن انزعاجاً شديداً عند ما يقول المواطنون والسياسيون الجنوبيون أن حرب 1994م قضت في ما قضت على الدولة والهوية والتاريخ والثقافة الجنوبية، ويتساءل كثيرون منهم: ـ

عن أي هوية تتحدثون ونحن ليس لدينا في اليمن إلا دولة واحدة وهوية واحدة وتاريخ واحد؟ وما إلى ذلك من التعبيرات التي حفرت حضورها في ذاكرة الكثيرين تحت تأثير الدعاية والتحريض الإعلاميين الذين ظلا على مدى عقود من الزمن يهدفان إلى التركيز على البعد السياسي لمفهوم الهوية بعيداً التعريف العلمي لهذا المفهوم، بل وعن المضمون المتداخل والمعقد والمتغير لهذه لقضية التي تتطلب وقفات مطولة. إن أهم ما في هذا الفهم المضبب والمموه والمشوه للهوية يتمثل في الخلط بين عدة مفاهيم ومقولات، كل واحدة منها تستدعي كتاباً منفرداً إن لم يكن أكثر، حيث يجري الخلط بين مفهومي الدولة والهوية، وبين الدولة والتاريخ، وبين التاريخ والثقافة وبين الثقافة والهوية، وبين كل هذه المفاهيم وبعضها البعض، إما بسبب عدم فهم معاني وتأويلات تلك المفاهيم والتمييز بينها، أو في إطار محاولات لتتويه القارئ أو المتلقي عن القضية الرئيسية المتصلة بالهوية ومعانيها وأبعادها ومضمونها.

إن ما يثير غضب هؤلآء السياسيين ومؤيديهم من الحديث عن هوية جنوبية يمكن أن يكون منطلقه الأساسي الاعتقاد الذي كرسته الإيديولوجيات المختلفة (الإسلامية والقومية واليسارية) من مفاهيم عن "الأمة العربية" و"الأمة الإسلامية" و"الوحدة العربية" ومثلها "الوحدة اليمنية" وقصة “الأصل والفرع” في ثنائية الشمال والجنوب، وإذا ما أضيف إلى ذلك شعارات مثل شعار “الثورة الأم والثورة البنت” و”الوحدة أو الموت” و”الوحدة المعمدة بالدم”، فإنه يمكننا أن نتفهم جزءً كبيراً من أسباب الغضب والامتعاض من الحديث عن "الهوية الجنوبية"، لكن هذا الفم في غالبه لا يحضر إلا عند أصحاب النوايا الحسنة الذين ما يزالون يعيشون مرحلة الوفاء للإيديولوجيا (بوعي أو بغير وعي) وإهمال الأبعاد الإنسانية والواقعية والاجتماعية والتاريخية لمفهوم الهوية، واستبعاد أو تجاهل كلما يربط الهوية بمصالح السواد الأعظم من البسطاء الطامحين إلى حياة أقل مهانة وأقل فقراً وبؤساً وعناءً وأقل أوبئةً وحروباً ودماءً، وأكثر رخاءً وأمناً واستقراراً وفرصاً للنهوض، وأكثر أهليةً للحاق بعالم القرن الحادي والعشرين، أما في الغالب الأعم فإن ما يستفز هؤلاء وخصوصا المنتميين إلى الطبقات (السياسية) الطفيلية منهم، وهي المتحكمة في أدوات الإعلام، ووسائل وأدوات صناعة القرار، هو الحديث عن الهوية كمصلحة وانتماء وروابط اجتماعية واقتصادية وخدمية وعواطف ومشاعر وتطلعات وأماني مشتركة، وقبل هذا وبعده المشاركة في صناعة القرار وفي الاستفادة من الموارد الوطنية، أو ما يسميه الساسة بالتوزيع العادل للسلطة والثروة، لإنهم بذلك يشعرون بأن لا مصالحهم ولا مشاعرهم ولا انتماؤهم ولا روابطهم ولا عواطفهم لها أي علاقة بموضوع الهوية المقصودة بهذا المعنى. لقد جاء هذا الكتاب كمحاولة لتفكيك العديد من القضايا المتصلة بمفهوم الهوية، والعلاقة الجدلية بين هذا المفهوم وبين القضية الجنوبية ولماذا يتحدث الجنوبيون بإصرار عن هوية جنوبية، ولماذا يتهرب الكثير من مثقفي السلطة الشماليين من الحديث عن هوية أو حتى هويات شمالية؟ إنها محاولة يحذونا الأمل أن تصيب في ما رمت إليه وللقارئ الكريم أن يحكم بفطنته أين أخطأ الكاتب وأين أصاب، وسأكون سعيداً بتلقي أية مناقشات أو ملاحظات قد تفيد في مراجعة المفاهيم وإعادة صياغة ما يمكن الاستفادة منهم في إطار قراءة الأحداث وبناء المفاهيم.


مقالات الكاتب