التحديث السعودي يصنع مصيرا مختلفا للمنطقة
فاروق يوسف*
مَن لا يعرف السعودية لا يمكنه النظر بطريقة إيجابية إلى مغامرة الأمير الشاب محمد بن سلمان في التحديث أو لا يمكنه التعرّف على حجم تلك المغامرة الحقيقي.
تلك دولة تملك كل مقومات الانتساب إلى العصر الحديث غير أن مجتمعها غارق في بلاغة ماض، لا وقع حقيقيا له في الحاضر.
وإذا ما كانت الدولة قد استيقظت على أحلام أمير شاب، فإن المجتمع الذي تم تدريبه لعقود طويلة على الإخلاص إلى كل ما هو سلفي لن يكون في إمكانه أن يستيقظ بتأثير سياسة الصدمات إلا بصعوبة مع توقع وقوع بعض الخسائر التي لا يمكن تفاديها. إنها مهمة عسيرة.
السعودية لن تتغير في ليلة وضحاها. كان السماح للنساء بقيادة السيارات قرارا ثوريا. من خلاله استطاعت القيادة السعودية أن تضع المرأة في مكانها الصحيح. غير أن تلك الخطوة لا تتعلق بالمرأة وحدها بل هي أيضا خطوة محسوبة من أجل تثوير المجتمع بأكمله.
سيُقال إن السعودية قد تأخرت في ذلك عن شقيقاتها الخليجيات التي لم تشهد أي واحدة منها حظرا مماثلا على الأنوثة. ولكن السعودية شيء آخر. وهو ما يجب أن ندركه جيدا لكي نتعرّف على حجم المغامرة التي يخوض غمارها محمد بن سلمان.
الدولة اليوم تقاوم مجتمعا سبق لها أن صنعته في مواجهة أزمات مختلفة. إنها تقوم بتفكيك ماكنة معقدة، يمتزج فيها الاجتماعي بالديني. وهو ما يعني إحلال ثقافة معاصرة محل ثقافة بائدة.
وإذا ما عرفنا أن السعودية التي تغيّر نفسها من الداخل تواجه في الوقت نفسه تحديات خارجية مصيرية على مستوى بنية المنطقة، فإنها تضع تلك التحديات في مختبر قدرتها على أن تكون دولة معاصرة بمجتمع يجري العمل على التسريع من خطوات تحديثه. وهي مجازفة لا يمكن التكهن بيسر بتوقيتاتها.
وعلى العموم فإن السعودية حين تجمع بين التحديين الداخلي والخارجي فإنها تسدي خدمة عظيمة للمنطقة بأكملها. فهي من جهة تحرر نفسها من ثقل، كان ينعكس سلبا على قدرتها على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب وهي من جهة أخرى تندفع بالمنطقة خارج دائرة ما صار يُسمى بـ”واقع الحال”.
هناك واقع آخر يمكن أن تصنعه الإرادة ليشكل محورا للمصير المشترك الدول العربية. هو واقع يتناسب مع قدرات ومؤهلات تلك الدول الحقيقية وما ترغب فيه شعوبها. لذلك يمكن القول بيقين إن السعودية حين تتغير فإن ذلك التغير يجري في مصلحة الكيان العربي الذي يواجه اليوم أكثر الأوضاع خطورة على مصائر شعوبه.
السعودية ليست اليوم دولة محورية في المنطقة فحسب، بل هي أيضا في ظل الظروف الكارثية التي تمر بها غير دولة عربية يشكل وجودها العمود الفقري للوجود العربي.
هنا ينبغي التشديد على أن تلك اللحظة التاريخية الدقيقة ينبغي عدم التفريط بها من قبل السعودية بالرغم من أنها تلقي على كاهلها عبئا ثقيلا. وهو ما يضفي على ظهور ولي العهد السعودي بمشروعه التحديثي الكثير من الأهمية التاريخية.
فحين تُحدث السعودية من أدواتها وأساليبها وفكرها السياسي وطريقة نظرها إلى العالم والمحيط العربي ودورها الذي اكتسب طابعا جذريا، فإن أشياء كثيرة ستتغير في المنطقة وبالأخص على مستوى ميزان القوى.
في ما مضى كانت السعودية بطيئة في قراراتها وهو ما انعكس سلبا على المنطقة وبالأخص على مستوى ما يمثله التحدي الإيراني من خطر مصيري، صار يهدد باقتلاع شعوب من عروبتها في ظل فتنة طائفية متخلفة كانت إيران هي الطرف الوحيد المستفيد منها. أما اليوم فإن السعودية تقدم نفسها بما يتناسب مع حجمها.
هي دولة طليعية تدعو إلى التحديث وفي ذلك بدأت بنفسها. وعلى مستوى المعادلات في المنطقة فقد صارت السعودية واضحة ومباشرة في الإشارة إلى مواقع الخطر الذي يهدد العالم العربي حين وضعت إيران في مكانها الحقيقي باعتبارها عدوا مؤكدا.
كان فاجعا لإيران أن لا يتم إعلان الحرب عليها طائفيا من قبل السعودية. لقد صنعت قوة التحديث في السعودية لغة مختلفة. وهي لغة لا يمكن لنظام متخلف ورث مثل النظام الإيراني أن يفهمها أو يتعامل معها.
بسبب كل ما سبق يبدو مشروع الأمير محمد بن سلمان كما لو أنه نوع من المجازفة التاريخية. هو كذلك غير أنها مجازفة محسوبة. فالسعودية هي دولة قوية ومؤثرة عالميا.
أما حين تكون السعودية دولة حديثة بمجتمع متحرر من صورته التقليدية فإنها ستقدم نموذجا عربيا للدولة الحية التي تسعى إلى تكريس قسم السلام والعدالة والمساواة.
ستكون من الصعب المقارنة ما بين نموذج سعودي يدعو إلى الحياة والبناء والتسامح وبين نموذج إيراني يدعو إلى الموت والخراب والتعصب. السعودية في عهدها الجديد تصنع عصرا عربيا جديدا.
*كاتب عراقي