سفر الهوية الجنوبية والدفاع عنها
د. فضل الربيعي
تعرف الهوية كمفهوم بأنها ذلك الشيء الذي يُشعر الشخص بالاندماج في المجتمع الذي يعيش فيه، والانتماء إليه.
والمقصود بالهوية الوطنيّة في معناها العام، ذلك الشعور الجمعي المشترك والشامل لمواطنين في دولة ما، الذي يقرّبهم من بعضهم البعض، ويولّد لديهم حسّاً بالإنتماء للأرض التي يعيشون عليها، ويعزّز الحاجة المشتركة للتعايش معاً الى حدّ ربطهم بمصير واحد. إنه شعور يولّد في أدنى درجاته إحساساً بالإختلاف عن الشعوب والدول الأخرى.
كما إن ضمور أو ضعف أو غياب هذا الشعور وتلك الروابط المتفرعة عنه، في أي بلد كان، يعكس حقيقة عدم القدرة على التعايش بين الجماعات المختلفة في ذلك البلد، وفي بعض الأحيان يؤدي إلى تقاتلها واشتعال الحروب الأهلية. كما أن غياب القيم والمشاعر الجمعية الوطنيّة تقود الدولة نفسها إلى الإنحلال والتمزّق. وهذا الوضع الذي يعيشه أبناء الجنوب ، الذي واجهوا حرباً ضروسا ضدهم الغتهم من المعادلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتم ربطهم في وحدة بالقوة.
لقد ارتبط الحديث عن موضوع الهوية في الظروف التحولات والتغيرات الكبرى التي تطال المجتمعات وتهدد هويتها . إذ أصبح الحديث عن الهوية الجنوبية يثير الجدل والحماس بين اوساط المجتمع في الجنوب على درجات متفاوتة من الحدة والحماس ، ويندرج هذا الحديث في اطار التفسير لقضية الجنوب والموقف منها ، فالحديث عن الهوية الجنوبية يستند إلى محددات القضية السياسية الجنوبية ، والدولة الجنوبية ذات السيادة التي تكونت على الرقعه الجغرافية والسكانية التي تمتلك حدوداً واضحة والمعترف بها محلياً وإقليميا ودولياً " دولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" وهي الدولة التي دخلت بمشروع وحدة سياسية مع جارتها " الجمهورية العربية اليمنية " في مطلع التسعينات ، في وحدة غير مدروسة قدر لها بالفشل على ارض الواقع وهذا الفشل هو مبعث العودة للحديث عن الهوية الوطنية السياسية للجنوب.
فالحديث عن الهوية هنا نعني به الهوية الوطنية للجنوب ذات الابعاد السياسية والاجتماعية والتاريخية ونقصد بالهوية الوطنية لشعب الجنوب والتي تشكلت عبر تاريخ طويل وتفاعل عدد من العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية والجغرافية .
وعليه فان هوية أي مجتمع مؤسسة على كيف يرى المجتمع نفسه وليس كيف يراه أو يرسمه الاخرون ، حيث ان استمرار الهوية يتأصل من خلال الدفاع عنها بوصفها محك يجسد صلابة التجانس والخصوصية التي تميز مجتمع ما عن غيره ، فأهل الجنوب اثبتوا دون شك انهم ذوو تجانس صلب وذوو هوية وطنيه مشتركة تعني الحقيقة والماهية والذات والوحدة والاندماج والانتماء والتساوي والتشابه. وكلها دلالات تصبُّ فيما نحن بصدد الحديث عنه.
لقد عرفت التكوينات الاقتصادية و الاجتماعية عبر تاريخ البشرية الطويل تطورا متواترا، و ذلـك نتيجة تطور قوى الإنتاج التي انعكس فعلها على علاقات الإنتاج و بالتالي على حياة الإنسان ، مما له تأثير كبير على ثقافات و لغات الشعوب من خلال تفاعل الأنشطة العملية و النظرية ، التي عبرها يتم تحديد الهوية التي تتشكل عبر التفَاعل الحضاري بين الشعوب، و تبقى الخصوصيات المحلية لكل شعب ذات أهمية في تحديد الهوية ,وقد عاش الجنوب في الفترات التاريخية الماضية صراعات طويلة بسبب تلك الغزوات التي تعرض لها إلاّ انه ظل محافظا ومتمسكا بهويته.
ويعد الجنوب منظومة فكرية وثقافية وحضارية تشكلت عبر تاريخ الانسان بالمنطقة انتجت تراثاً حضارياً وثقافياً متمايزاً عن المجتمعات الاخرى وهو دليل على ابداع الجنوب الذين لعبوا دوراً هاماً في العلاقات الدولية والعربية من خلال الطرق التجارية عبر ميناء عدن والشحر وبير علي ، والدور الذي قام به الحضارم في بلدان المهجر اذ كانوا حاملين للفكر والثقافة والدين الاسلامي في تلك البلدان .
وفي فترات لاحقة تعرضت الهوية الجنوبية ايضا إلى حملة من الممارسات التي لحقت الضرر والتشويه بها , فإذا ما فهمنا الهوية , بأنها الشعور بالانتماء إلى كيان اجتماعي واضح المعالم يميز مجتمع ما عن غيره من المجتمعات بعدد من الخصائص . وهي تعبيراً يطلق على ما يميز مجموعة من الافراد في دولة ما عن نظرائهم في دولة اخرى ، بمعنى ان الهوية تتضمن مجموعة من العناصر التي تجعل الافراد يرتبطون مع بعضهم بعضا وتجعلهم ينتمون إلى منطقة جغرافية معينة وتكون الهوية الوطنية الربط بين الافراد والأرض لتجعل كل هوية تختلف عن الهويات الاخرى . من هذا المعنى يتحدث الجنوبيين عن استعادة هويتهم التي كانت تجمعهم في دولتهم السابقة حيث ان دولة وحدة القوة قد احسستهم بلا وطن ولا هوية لهم خصوصاً بعد تعرضهم للتهميش والإقصاء ، وصودرت ممتلكاتهم واستبيحت اراضيهم ، وإلغائهم من المشاركة السياسية والاقتصادية وضرب البنية الاقتصادية والاجتماعية بعد تفكك نمط الانتاج المحلي المطبوع بالهوية الجنوبية وتفكيك التنظيمات الاجتماعية والمدنية بعد حرب 1994م ، وتعرضت معالمهم التاريخية والثقافية والدينية التي كانت تجمعهم في هوية واحدة إلى الطمس .
ويعيش الجنوب اليوم في صراع من اجل هويتهم، والذي يمتد إلى فترات سابقة ، يمكن القول ان الجدل والتنازع حول مفهوم الجنوب العربي , واليمن الجنوبي والشطر الجنوبي يتعلق بالهوية . وعليه ان تسمية الجنوب العربي كانت هي التسمية للكيان السياسي الجنوبي الواحد , فقبل ذلك كانت يعرف الجنوب بالمحميات الشرقية والغربية بالإضافة إلى مستعمرة عدن , وقد جاء مشروع الكيان الجامع لربط المحميات وعدن في كيان سياسي واحد محدد الهوية حيث لقي هذا المشروع اعتراض واضح من قبل اطراف قد لا تنتمي للجنوب جميعها ، بل ارادوا من هذا المعارضة ضرب هوية الجنوب والتشويش عليها لأغراض لم تتضح إلاّ في الوقت الراهن .
ولم يدرك الجنوبيون تلك الابعاد التي تستهدف هويتهم الوطنية , اذا انجروا يعارضون المشروع الفيدرالي للجنوب العربي ومعارضتهم تلك الذي جرُوا اليها من زاويا اخرى غير مستوعبين مخاطر ذلك على مستقبل الهوية الجنوبية ، وقد كان وراء هذا العمل اجندة خارجية تمرر من الداخل حيث لعبت دوراً اساسياً في الحركة السياسية في الجنوب ، تهدف إلى ربط الجنوب بهويات أخرى ، وهو الفكر الذي أستهدف الهوية الجنوبية في المهد .
إنَّ تأسيس دولة (اتحاد الجنوب العربي)، كان وثيق الصلة بتاريخ وهوية الجنوب. كما أنه من المؤكد بأنَّ الهدف الأساسي لتلك الدولة، كان العمل على تأكيد وترسيخ تاريخ وهوية الجنوب.
قد يقول قائل ان اتحاد الجنوب العربي لم يشمل حضرموت والمهرة ، نعم ولكنه مشروعاً فيدرالياً جنوبياً يسير في اتجاه ضم بقية المحميات كما هو واضح في والوثائق والمحاضر التي جرت في تلك الفترة .
يمكن القول ان الهوية الجنوبية قد تعرضت لعددا من الضربات والتشويه الممنهج الذي اضر بالهوية الجنوبية ، مرت في ثلاث مراحل وهي:
المرحلة الاولى :
تمثلت هذه المرحلة في الاتي :
1- هجرة الاجانب الكبيرة الى عدن وعلى وجه الخصوص القادمة من المملكة المتوكلية .
2- ظهور بعض التنظيمات السياسية والاهلية والنقابية التي تحمل اسم اليمن ، في عدن وهي في الاساس تنظيمات معارضة لنظام دولة الامامة في اليمن الشمالي ، كما هي أي معارضة في العالم التي تنزح وتعمل في الخارج عندما لاتجد مكان في الداخل . وقد كانت عدن تحت سيطرة الاستعمار البريطاني في تلك الفترة الذي سهل لهم ذلك لخدمة أهدافه الخاصة ، ثم امتدت هذه التنظيمات وتداخلت بالشأن الجنوبي نظراً لتاثير المد القومي والذي نتج عنه مهاجمة اتحاد الجنوب العربي وهو اول كيان سياسي للجنوب .
3- تسمية جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في 1967م.
الرحلة الثانية :
لقد كان للمد القومي العربي في تلك الفترة اثر كبير في محاربته القطرية على نفس الصعيد جاءت الافكار الاممية المتمثلة في الاشتراكية كمنهج للحزب الحاكم في الجنوب.كل ذلك قد اثر سلباً في التشويش على الهوية الجنوبية ونتج عنه بعض الممارسات التي استهدفت ضرب الهوية الجنوبية كتلك الاجراءات التي أتبعها النظام وهي:
1- تحويل اسم الجمهورية من جمهورية اليمن الجنوبيه إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وشطب أسم الجنوب منها .
2- سياسة النظام الحزب الاشتراكي اليمني الذي سمي بالحزب الاشتراكي اليمني في عام 1978، وإنتاج مفاهيم صماء كالشطر الجنوبي هذا المفهوم الذي انتقص من الهوية الكاملة وغيرها من المفاهيم التي خلقت وعياً زائفاً في المجتمع ، وصولاً الى الوحدة المزعومة عام 1990م.
3- ضرب البنى التقليدية التي تمثل الوحدات الاجتماعية الاساسية في المجتمع وهي السلطات والمشيخات بوصفها هويات فرعية واداة للحكم المحلي وهي التي ظلت تقاوم كل الغزوات الشمالية في المراحل الماضية .
4- ضرب القوى الاقتصادية في الجنوب تحت مبررات سياسة النظام وهروب اصحاب رؤوس الاموال الجنوبيه للخارج .
5- ضرب المؤسسة الدينيه كمرجعية اساسية في المجتمع .
6- ضرب بعض القوى الجنوبية الحكام السابقين والكوادر الوطنية والعسكرية تحت مبرر انها قوى تابعة للاستعمار.
7- منع وإلغاء اسماء المناطق والألقاب من أسماء العلم في المعاملات الرسمية ، واستبدال اسماء الوحدات الإدارية بارقام.
المرحلة الثالثة:
وتعد اخطر المراحل التي استهدفت الضرر الكبير في الهوية الجنوبية ، لكنها ربما كانت هذه الممارسات هي التي اعادة انتباه الناس للهوية واستشعروا مخاطر ذلك على كيانهم الاجتماعي ومستقبل الجنوب.
وعليه فقد تبلور في الواقع قيام حركة شعبية نشطت في المجتمع قررت استعادة تاريخه وهويته، اللذين جرى اختطافهما ومصادرتهما في المرحلة الماضية. حيث تمتْ عملية تزوير مدروسة ومتواصلة لتاريخ الجنوب. ولم تمسْ عملية التزوير هذه كتابة وتدوين هذا التاريخ فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى إنكار الجنوب كوجود وهوية. فشُنتْ الحربُ عليه في صيف 1994م، وجرى اجتياح واحتلال أراضي الجنوب، ومن ثم ضمها إلى الجمهورية العربية اليمنية. حيث تعرضت الهوية الجنوبية إلى الهجوم المنظم والتدمير الممنهج من قبل سلطة نظام صنعاء منذ الغام 1994م ، وقد تمثل ذلك في الاتي :
1- رفض أي خصوصية للجنوب تحت مسمى الواحدية ، والوحدة .
2- الهجوم المتوحش على الذاكرة الحضارية والتاريخية والنضالية لشعب الجنوب عبر محاولة طمس معالمها الحضارية والثقافية والدينية والاجتماعية .
3- عمل نظام صنعاء على اخضاع الجنوب بالقوة العسكرية في محاولة منه لتفكيك الوحدة الداخلية للجنوب التي بنتها الدولة السابقة .
4- تهميش الجنوب اقتصاديا وسياسيا وثقافيا بدعوة قدسية الوحدة مما جعل الجنوب يعيش بين واقع ملموس لا يمت للوحدة بصلة ، وبين حلم الوحدة التي انتجها الفكر القومي والأممي والديني .
5- حرمان الجنوب من كل حقوقهم المدنية والسياسية والاقتصادية مم جعلهم يعيشون خارج هوية الدولة الامر الذي يعطيهم الحق للدفاع عن هويتهم الاصلية المسلوبة عند ذلك انتفض الشعب في حراكه السلمي مطالبا اسعادة هويته ودولته .