أزمة الهوية والوحدة

إنَّ أبرز الحروب التي عرفها التاريخ اليمني قديماً وحديثًا كانت حروب الهُويات (الطائفية والقبلية والمناطقية أو هُوية الدولة) مهما أعطيت لها من توصيفات أخرى، وقد دخل كلَّ من الجنوب والشمال بوصفها كيانين اجتماعيين، في حروب طويلة تعود إلى مئات السنين قبل ظهور الدولتين الحديثتين أو بعد ذلك، إذ نشبت بين الجمهوريتين أكثر من حرب كحرب 1972م وحرب 1979م . وكذلك حرب 1994م التي حدثت بعد أربع سنوات من إعلان مشروع الوحدة تعود أسبابها في الأساس إلى الخلفية الوطنية لهُوية الدولتين والنظامين السابقين الذين حكما" الجمهوريتين بوصفهما" هويتين منفصلتين تمثل ذلك الفصل في طبيعة الحرب ونتائجها التي تعامل معها الشمال بوصفه كهُوية طرف منتصر على الجنوب الذي تم إلحاقه بهوية دولة اليمن الشمالي بقوة الحرب التي خلفت نتائج مأساوية تمثَّلت في نهب ثروات الجنوب وتشريد أبنائه وإذلالهم وتحويلهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية وطمس كلِّ الآثار والمعالم التي تتَّصل بالذاكرة الثقافية للجنوب، الأمر الذي دفع بالجنوبيين إلى النضال من أجل العودة إلى هويتهم الوطنية وفك الارتباط واستعادة هُوية دولتهم الوطنية، وعلى خلفية ذلك نشطت الحركة السياسية الجنوبية التي عُرفت بالحراك الجنوب، ونضاله السلمي لاستعادة هُويتهم الوطنية وخرجوا في مسيرات مليونيه متكِّررة خلال السنوات الماضية رافعين فيها علم دولتهم السابقة رمزاً للهوية السياسية للجنوب ، وقدمت الحركة آلاف من الشهداء والضحايا الذين سقطوا في المظاهرات والتجمعات السلمية ،الأمر الذي زاد من تفاقم الحقد والكراهية بين مواطني الدولتين السابقتين. إذ مثلت الحرب الأخيرة فرصة للجنوبيين للمشاركة فيها ومواجهة القوات الحوثية في المحافظات الجنوبية وتحرير اراضهم من تلك المليشيات وبقية القوات الشمالية وقد تبلور نضالهم 1لك في شكل بناء قواتهم الخاصة ، وتأسيس الاطار السياسي المعروف بالمجلس الانتقالي الجنوبي الذي اصبح مسيطر على الأرض في المحافظات الجنوبية والمعترف فيه على المستوين الداخلي والخارجي. لقد كان مشروع الوحدة والدولة الوطنية بحدِّ ذاته محاولة دمج هُويات في هوية واحدة وهذا بالطبع سيخلق هوية جديدة جامعة تتجاوز الهُويات المُتعِّددة التي تتشكِّل فيها هذه المحاولة والتي املتها ضرورتان, هما: ضرورة سياسية وضرورة أيدلوجية ، إلاَّ أن الضرورة السياسة لم يكن بمقدورها إقامة دولة بهذا الشكل على أسس هيمنة قوى وهُوية على الأخرى بعد الانقلاب على مشروع الوحدة بحرب صيف1994م وتجاهل ما قدمه شعب الجنوب لذلك ، لا سيما إذا أخذنا الثقل الديمغرافي للشمال والاقتصادي للجنوب ، الأمر الذي كان يستلزم خلق أنموذج مجتمعي بهُوية تستوعب كل المكونات على نحو تضمن للجميع الحرية وتكون أكثر جذباً للطرف الذي تنازل وقدم الكثير من أجل الوحدة بدلاً من أن تكون عامل طرد وإقصاء وتهميش وقهر له. أما الضرورة الأيديولوجية التي انطلقت منها تلك الوحدة كانت مبنية على البعد القومي والأممي الذي تبَّنته النُخب السياسية في الماضي، من دون إدراكها مدى معرفة قبول هذه الأفكار في الواقع اليمني المتخلف ففكرة الوحدة جاءت هنا بقرار من الحزبين الحاكمين في الدولتين من دون استفتاء الشعبيين في الدولتين، فاندفاع الجنوبين للوحدة جاء نتيجة التأثير الذي مارسته النُخب السياسية والإيديولوجية من إسلامية وقومية واشتراكية في تلك الحقبة من دون العودة إلى استفتاء الشعبيين في الجمهوريتين. ان الاتفاق الارتجالي على قيام الوحدة بين النظامين جاء من القيادتين السياسيتين، الأمر الذي يجعل من قرار الوحدة أقرب إلى صيغة فوقية، وليس صيغة قاعدية شعبية ومؤسسيَّة، ممَّا أدَّى إلى تهميش القوى الاجتماعية وغياب مشاركة الإرادة الشعبية في إعلان مشروع الوحدة والدولة والنظام السياسي فيها مما ادخل مشروع الوحدة في مازق منذ الوهلة الأولى لإعلانها . ويرون أنَّ هويتهم كانت قد تعَّرضت للكثير من التشويه من جرَّاء ممارسة النظم السياسية التي لم تنبع من ذات الأفراد بشكل تلقائيً بل تمَّت هذه العملية تحت تأثير ايدلوجية الدولة ممارسة ونُخبها المؤطرة بالإيديولوجيا القومية والأممية الإقصائية التي مارست عمليات الصهر والدمج القسري من دون مشاركة فعلية للمجتمع فيها.