..وهل أتاك حديث «الشحر»!
هاني مسهور
في تاريخنا العربي روايات من قصص المجد الخالدة في الذاكرة حتى وإن تعاقبت القرون عليها، فهي حكايات تحمل دلالات الأيام المعاصرة. فما صنعه الأسلاف ليس لنا أن نتباهى به بمقدار أن نسرده في هكذا زمن لمعرفة لماذا نحن نعيش هذه الكيمياء التي تصنع أيامنا ونخوض فيها واقعنا، ونذهب إلى مستقبل الأجيال الآتية.
وعند الذاكرة الحضرمية شيء من أشياء يجب أن تُنبش نبشاً، فهي أصل كل هذا الزمن وما نحن عليه، ولذلك ها نحن نذهب إلى أوائل القرن السادس عشر. حيث كان البرتغاليون يحاولون مدّ نفوذهم على مناطق التجارة للسيطرة في تنافسهم مع الفرنسيين آنذاك، وكان لابد من السيطرة على مدينة عدن لموقعها على باب المندب، فتقرر الهجوم عليها وإخضاعها للإمبراطورية البرتغالية.
احتدم الصراع في عدن وشهدت مقاومة شديدة وكانت تستعين بإمدادات من أهالي مدينة الشحر حاضرة حضرموت في تلكم الحقبة الزمنية، والتي كانت خاضعة للنفوذ العثماني.
انهزمت البرتغال في عام 1523 وفشلت حملتها للسيطرة على مدينة عدن، غير أنهم توجهوا إلى بحملة عسكرية إلى الشحر في محاولة إخضاعها ليتمكنوا من السيطرة على كامل الساحل من ظفار إلى عدن، وهو ما دفعهم لاستدعاء تسع سفن من الهند إلى الشحر، حيث وصلوا قبالة سواحلها ونزلت جحافل الجنود إلى المدينة مبادرين بإطلاق النار على كل شخص يصادفونه أمامهم، ويحرقون الدُّور والمحلات وكل ما يمرون عليه، فلقد أبان ذلك الاجتياح عن الحقد الذي ملأ قلوب البرتغاليين والروح الانتقامية التي غذّتها خيبة تقهقرهم في عدن.
لم يجد أهالي «الشحر» من بدّ إلا مواجهة الغزو البرتغالي بما يمتلكون من أدوات متاحة كالعصي والسهام والسيوف والدروع، وتقدم الناس شخصيات من رجالات الحارات بشجاعة، وتوزعوا على أطراف الحارات ليخوضوا معركة يمكن تشبيهها اليوم بأنها حرب شوارع خاضت فيها المقاومة معارك على مدار ثلاثة أيام متواصلة لم تستطع فيها الحملة البرتغالية إنجاز المهمة، ما دعا القائد البرتغالي لرمي المدينة بالنفط وهي مادة غير معروفة عند العرب آنذاك وأطلقوا عليه «سام الكافر»، وقد أشعل النار بالبيوت، إلا أن وجهاء المدينة استجمعوا قوتهم مدعومين بالمقيمين في المدينة من صوماليين وهنود ومليباريين مع دعم من أهالي «الريدة» الذين أرفدوا «الشحر» بقوة من الرجال.
عجزت الحملة البرتغالية عن فرض سيطرتها بعدما تكبدت خسائرَ في أرواح الجنود أمام استبسال المقاومة «الشحرية»، مما عجل بانسحاب القوات الغازية وجلائها مهزومة ومنها بدأت فعلياً نهاية النفوذ البرتغالي على حواضر الخليج العربي.
شكلت تلكم المعركة في وجدان الحضارمة علاقتهم الأزلية مع عدن، ورسمت تاريخهم السياسي على جغرافية الأرض الممتدة من باب المندب، وحتى المهرة، وهي كامل الساحل الذي تتحزم به شبه جزيرة العرب، ذلك الفصل من التاريخ، يُستدعى في هكذا وقت بكثير من النظر العميق فيما شكلته من حقيقة الدور التاريخي الحضرمي في تشكيل النمطية السياسية عبر العصور.
في المئوية الخامسة لذكرى الشهداء السبعة الذين تقدموا الناس في معركة هزيمة الإمبراطورية البرتغالية نستعيد لحظة الوعي ناحية ما يجب فعله عند الزمن المعاصر، حيث تعيش هذه البلاد مخاضاً عسيراً ناحية عزمها بلوغ الاستقلال السياسي الثاني في القرن الحادي والعشرين، وهنا ليس مجرد استدعاء لتاريخ مضى بمقدار ما هو تأصيل لعقيدة الناس الوطنية منذ وقت بعيد وعبر أزمنة تعاقبت اختبرت فيها المعادن.
فالبلاد التي عُرفت يوماً أنها بلاد اللبان والبخور ثم تغنى بها الناس بألحان شاعرها الأشهر أبوبكر حسين المحضار، هي صانعة حقيقة أن شعباً وارثاً لأمجاد يريد الحرية والاستقلال. فلا تتعجبوا إنْ الزمان استدار وتحطمت عند أسوار عدن أحلام النفوذ الأعجمي في يوم «السهم الذهبي» الخالد وقد جاء المدد مرة أخرى من البلاد الحضرمية، فهذه صيرورة التاريخ وحقيقة الوجود.