الواقعية السياسية.. مظلة الهبوط الآمن لقضية الجنوب
صالح شائف
الواقعية السياسية كمفهوم للممارسة التي يتجسد من خلالها الحضور السياسي المنظم، للقوى والأحزاب والتيارات السياسية والاجتماعية، مختلفة الأهداف والرؤى البرنامجية، وأيّاً كانت خلفياتها الفكرية أو الأيديولوجية المعتمدة لديها، فهو لا يعني بأيّة حال من الأحوال أنها تسلم بالأمر الواقع، المفروض عليها دون أن تكون مقتنعة به، ومشاركة في صنعه، وأن يكون ملبياً لأهدافها المعلنة، ولو بالحد الأدنى مرحلياً. ولا تعني الواقعية السياسية تنازلاً أو تبريراً للتراجع عن تلك الأهداف والرؤى البرنامجية عند من هم ثابتون على قناعاتهم، ومخلصون لأهداف شعبهم ورؤاهم السياسية والوطنية، بل تعني التعاطي الذكي والمرن، الذي يدخل ضمن الأساليب التكتيكية التي تتناغم مع الهدف الإستراتيجي، وتسخر لخدمته وتعجل بحركة السير للوصول إليه..
ولذلك لابد من التمييز بين الفعل العلني للممارسة السياسية ذات الطبيعة البرنامجية والأهداف الكبرى، وبين الطابع السري لها، وهو عادةً ما يكون ملكاً للقيادات، ومحكوم بقواعد وضوابط متفق عليها داخل إطار تلك القوى السياسية، وبمسمياتها المختلفة، أياً كانت أهدافها، وهي قاعدة معروفة في ميدان العمل السياسي عالمياً، وبنسب ودرجات مختلفة، ووفقاً لما تقتضيه الحاجة أو تفرضه الظروف القائمة والملموسة في كل حالة على حدة، وهو ما يعني -عملياً- أن المسافة بين ما هو علني وما هو سري، تتسع أحياناً وتضيق أحياناً أخرى، وهي محكومة بطبيعة التطورات والأحداث على مسرح الحياة السياسية والاجتماعية، وبطبيعة التحالفات والمناورات، وبأشكالها وصيغها المختلفة «السرية منها والعلنية»..
أنه لمن المؤسف جداً، أن تغيب مثل هذه البديهيات السياسية عن أذهان البعض منا، أو تُغيّب عمداً من قِبلهم، إما لأسباب خاصة، أو بسبب ترسبات الثقافة السياسية المشوهة والقاصرة، التي ما زالت فاعلة في العقل السياسي الجنوبي، والتي تجعل هذا البعض ممن يتعاطون السياسة من زاوية أحادية الجانب، وإن تفاوتت الدرجات هنا وهناك، فهم لا يرون من الألوان غير الأسود والأبيض، وهو موقف عدمي يحرم أصحابه من التحرك في مساحة واسعة، يتجسد فيها التنوع وتحضر فيها كل الألوان، وبما يسمح للجميع أن يعرف أين موقعه وحجمه قياساً بغيره، وسيكتشف بأن هذا الآخر عندما يقترب منه كثيراً ويتكامل معه، إنما هو ذاته متجسداً بهذا الآخر حين تكون وحدة الهدف واحدة عند الجميع، وإن اختلفت نسبياً طريقة التفكير، أو تباينت الوسائل التي يرونها وكلاً من موقعه بأنها الأفضل والأنسب للوصول إلى الهدف المشترك الواحد، وبالتالي فإن ما هو قائم في العلاقات الوطنية الجنوبية من تباعد وتجاذبات إنما يعود في غالبه الأعم إلى ضعف الثقة المتبادلة، والخوف المتبادل كذلك، وهي حالة غير مبررة وطنياً، وتضر بالجنوب وكل الجنوبيين وإلى استحضار الماضي من قِبل البعض إلى ساحة المعركة القائمة من أجل المستقبل، وهي ليست مجالاً لتصفية الحسابات أو لممارسة الانتقام، وسلوك هدام كهذا، يوظفه أعداء الجنوب لمصلحتهم، ويستغلونه وبصور شتى رغبة منهم في إشعال نار الفتنة بين الجنوبيين، لتتحقق أهدافهم بسهولة ويسر وبثمن غالٍ يدفعه أبناء الجنوب نيابة عنهم.
إن التعامل مع الواقع وتقدير معطياته بصواب ودقة واحتمالات مآلاتها القادمة، الممكنة منها وغير ممكنة التحقق على صعيد الحياة، تشترط بالضرورة أن يكون أصحاب المشروع الوطني الجنوبي قد امتلكوا أدوات ووسائل تغييره، وحددوا خطواتهم، ورسموا خارطة تحالفاتهم التكتيكية والإستراتيجية، الدائمة منها والمؤقتة، داخلياً وخارجياً، وتوافقوا على كل مسارات فعلهم وعلى ما هو رئيسي وما هو فرعي أو ثانوي، للوصول للهدف المعلن، وهو هنا متمثلاً باستعادة الدولة الجنوبية كاملة السيادة، عبر آلية فك الارتباط ضماناً لتجاوز الاختلافات التي قد تتحول إلى خلافات عند نقطة معينة، تربك حركة الجميع نحو الهدف، وتضعف جبهتهم الداخلية، وتقدم هدايا سياسية مجانية لأعداء مشروعهم الوطني وقضيتهم، مع ما يتطلبه ذلك من ضبط صارم للخطاب السياسي والإعلامي بكل أشكاله وبقدرتهم على توزيع وتبادل الأدوار، ووفقاً لما يتطلبه التعدد والتنوع في وسائل النضال الذي يخوضه شعبنا في الجنوب من أجل حريته وكرامته وسيادته على أرضه.