فُل لحج.. عنوان الفرح وأنيس السمر وزينة النساء في الأعراس
ارتبطت زهرة الفل منذ دخولها محافظة لحج بعادات وتقاليد المجتمع اللحجي، وصارت عنوان الفرح وأنيس السمر والسهر وزينة للمرأة في الأعراس وفي مختلف مناسبات الفرح حتى أصبحت هذه الزهرة مقصد الشعراء وتغزلهم بالفل ومن تتزين به من النساء في الغناء اللحجي.
صدحت أصوات الفنانين ترتل آيات جماله الآخاذ بدءاً من الفنان الشعبي الكبير الراحل فيصل علوي مرورًا بالفنان الكبير الراحل محمد مرشد ناجي في أغنيته ورد نيسان ومناضرة بين الفل والورد، والفنان الراحل محمد محسن عطروش في أغنيته "رحنا إلى البندر" وغيرهم من الفنانين في لحج وعدن ممن عمقوا علاقة الفل بالحياة الاجتماعية حتى أصبحت حياة متلازمة ومترابطة ارتباطاً وثيقاً امتد أجيالاً عديدة إلى الفترة الراهنة.
بداية مجهولة
تشهد زهرة الفل انتشاراً واسعاً في زراعة أشجارها حيث لم تعد تقتصر زراعتها على محافظة لحج فقط بل تعدت زراعتها إلى محافظات يمنية أخرى، من أبرزها أبين والحديدة، لكنّ الغريب رغم الصيت الذائع الذي تمتلكه هذه الزهرة على مستوى اليمن والخليج إلا أنّ التاريخ الحقيقي لدخولها محافظة لحج لم يذكر متى على وجه الدقة.
يقول عوض أحمد مسيمن أحد المهتمين بالشان الزراعي بمحافظة لحج لـ"المشهد العربي": "تعتبر شجرة الفل من أشهر أشجار الأزهار العطرية التي أدخلها الشاعر والأمير أحمد فضل القمندان إلى السلطنة العبدلية )محافظة لحج) لكن يظل التاريخ الحقيقي لدخولها مجهولاً حتى هذه اللحظة".
ويضيف: "هناك الكثير من الأشجار والأزهار التي أحضرها القمندان إلى داخل السلطنة من بلدان عديدة أهمها مصر والهند وسوريا، وقد ذكر ذلك في كتابه (هدية الزمن) في أخبار ملوك لحج وعدن والذي حدَّد فيه البداية الحقيقية للحركة الزراعية بشكل عام في لحج عام 1265 هجرياً، ومع ذكره للكثير من الأشجار في الكتاب إلا أنّه لم يذكر الفل بشكل صريح لهذا يرجح أن يكون دخول الفل في نفس العام الذي أدخل فيه أشجار المانجو والبابي والتمر الهندي والخرنوب والشيكو والبيذان والأترنج وغيرها من أشجار الفواكه التي زرعت في لحج".
شجرة الفل تنمو بطول المتر الواحد وبعرض يصل ما بين متر ونصف إلى مترين وتحتاج إلى عناية خاصة لاستمرار حياتها وتواصل إنتاجها من الزهر على مدى العام وفي كل ذلك تحتاج إلى المزارع الحصيف والمتمكن والخبير في شؤون زراعة الفل وما أكثرهم في محافظة لحج.
زراعة الفل
يقول سالم محمد أمبيلة أحد زارعي شجرة الفل في مديرية تبن: "شجرة الفل تتميز عن كثير من الأشجار في زراعتها فهي لا تنمو عبر بذور لكنها تنمو من خلال الشجرة نفسها وعن طريق غرس أحد أغصان الشجرة في التربة وتركها لفترة من الزمن حتى تتحول إلى شجرة جديدة عندها يتم فصلها عن الشجرة الأم وتسمى الشجرة الجديدة بالرديمة وهكذا تتواصل هذه الطريقة في زراعة هذه الشجرة".
وأوضح أمبيلة: "شجرة الفل تحتاج من شهرين إلى ثلاثة أشهر حتى تصبح شجرة مزهرة بعدها تخضع لعمليات تكييف زراعية تجعل منها شجرة تزهر طوال العام وذلك من خلال قطف أوراق الشجرة بشكل كامل وتعريضها لحالة جفاف طويلة وتقليب التربة تحتها وبهذه الطريقة يمكنها أن تزهر حتى في فصل الشتاء والذي يكون إنتاج الفل فيه قليل جداً، وتكون حبات الفل صغيرة الحجم وسعرها مرتفع مقارنة بإنتاجها الوفير في فصل الصيف الذي يعتبر هو موسمها الرئيسي وفيه تتميز حبات الفل بحجمها الكبير ولونها الأبيض الناصع".
وأشار إلى أنّ هناك تسميات لمراحل إنتاج شجرات الفل وهي عبارة عن مرحلتين تسمى الأولى "التبشيرة" والثانية "الثناية"، وتتميز المرحلة الأولى بوفرة الإنتاج لأزهار الفل وكثرته وعادةً ما تكون "التبشيرة" مع بدايات فصل الصيف في هذه المرحلة تنخفض أسعار الفل إلى أدنى درجاته ويكون في متناول الجميع.
وفي "الثناية"، تخضع شجرة الفل لعملية سقي "ري" متواصلة إلى جانب الرش الكيماوي للقضاء على الحشرات المستوطنة في الشجرة، ما يساعد على استمرار إنتاجها طوال العام.
جني الفل
"عندما تظهر أزهار الفل بشكل وفير في فصل الصيف تبدأ عملية الجني قبل تفتحها في الصباح الباكر وتحديداً بعد صلاة الفجر".. ذكر ذلك علي عبدالله سالم أحد زارعي الفل، وقال إنّ زارعي الفل عند جني الفل يقوموا بطلب النساء للعمل والذين يطلق عليهم باللحجية بـالمفللات"، حيث يقمن بجمع حبات الفل بعناية شديدة من خلال اختيار الحبات الناضجة من الحبات غير الناضجة.
ونوَّه بأنّ هذه العملية تجري لساعات طويلة في المزارع الكبيرة وتحتاج إلى نساء كثيرات في حين تأخذ المزارع الصغيرة وقتاً أقل ولا تحتاج إلى الكثير من العاملات وتحصل العاملات على مبلغ 400 ريال، وبين السابعة والنصف إلى الثامنة تماماً يكون العمل قد انتهى ويجري تجميع الفل في أكياس وإرساله إلى الأسواق لبيعه في سوق الحراج.
مرحلة أخرى يمر بها الفل بعد جنيه وإرساله إلى سوق الحوطة للبيع في أماكن الحراج، حيث يقوم شخص متعهد ومختص بتحريج الفل للمشترين من المواطنين والتجار المتخصصين في بيع الفل في المفارش داخل محافظة لحج والمحافظات المجاورة، أبرزها عدن.
في الحراج
عندما وصلنا إلى سوق الحراج، سمعنا أصواتاً تتعالى متنافسة على شراء الفل في حلقة مستديرة يتوسطها سلقة "حصيرة" يجلس فيها محرج الفل وينادي بصوت عالٍ بمبالغ الفل، وهو يقول "2000" ويرددها ويأتي صوت آخر يقول "2500"، إلى أن يستقر المبلغ على أحد المشترين وتتواصل العملية مع كل أكياس الفل.
وصول الفل
يقول عارف كعامس مخرج الفل: "يصل الفل في الصباح من مختلف المزارع التي تتواجد أغلبها في مديرية تبن محافظة لحج والتي تنتشر على ضفاف وادي تبن بفرعيه الصغير والكبير وفي كل كيس يوجد اسم صاحب الفل يوضع الفل على حصيرة، ونبدأ بوضع سعر معين للكمية والمنادة بها وكل مشترٍ يضع سعرة على الكمية إلى أن ترسو على شخص معين".
وأوضح أنّ العملية تستمر مع كل أكياس الفل الواردة من المزارع حتى نفاذ الكمية وبيعها وفي اليوم التالي يتم تحصيل مبالغ اليوم الأول من المشترين من التجار بعد تسجيلهم في قائمة في اليوم الأول مع السعر وصاحب الفل ليتم إعطاء المزارعين حقوقهم المالية "محاسبتهم" وفي اليوم التالي تتوالى العملية وهكذا طوال العام.
بعد الحراج
بعد شراء الفل من قبل المشترين المتخصصين من الحراج يجري نقله إلى أسواق مختلفة داخل المحافظة أو خارجها، وفيها يجري بيعه في المفارش وعلى منصات خطوط السيارات على المواطنين في هيئة أشكال وأحجام مختلفة تتناسب مع طلب الزبائن والراغبين في الحصول على زهرة الفل والمحبين لرائحتها الجميلة.
أشكال الفل
يقول صلاح حسن سالم صاحب مفرش فل: "نشتري الفل من سوق الحراج بكمية كبيرة خاصة عندما تكون هناك طلبات من الزبائن )مزكنين( وحجوزات مسبقة من أصحاب الأعراس الرجالية والنسائية وغيرها من المناسبات عندها نقوم بعمل الأشكال المطلوبة للزبائن من خلال جمعها (شكها) في خيط وإبرة في المفرش أو عبر بعض النساء في المنازل وبمقابل رمزي يصل ما بين 1500 إلى 2000ريال".
وأشار صلاح إلى أنّ هناك الكثير من الأشكال التي يقوم بصنعها من حبات الفل للزبائن بحسب طلباتهم، ومن بين تلك الأشكال المشهورة المورد والعرائسي والحلزوني والشردخة والصافية والملكي والرباعية وغيرها من أشكال وأنواع الفل، حيث يكون بعض الأنواع خاصة بالعرسان والعرائس في حفلات الزفاف "الدخلة" وبعضها يكون لمخادر الرجال أو النساء وبعض الأنواع تكون للحاضرات "المعزومات" من النساء للأعراس حيث تجري منافسة شديدة بين النساء في تلك الفعاليات للظهور بشكل أفضل ومميز من بين المدعوات.
رمز الزينة
كان الفل ومازال رمزاً للزينة والإناقة وعطراً طبيعياً يبهج الصدور ويضمخ الأجواء متفرداً في حضرة أنواع الروائح الطبيعية والصناعية، فيحرض المشاعر لتنسج غزلاً عذباً ينساب انسياب ينابيع المياه في وادي تبن لتروي تلك الكلمات الصافية ظماء المحبين والعاشقين لذلك النقاء وتفتح للخيال مساحات واسعة في من تقلدت حبات الفل على صدرها أو تدلت أجرازها من ظفائرها الحريرية لتبقى رائحة الفل عالقةً في أعطاف الجسد وكأنه تعويذة سحرية كانت سبباً في الهيام والضياع للحالمين والعشاق كما حصل للفنان محمد محسن عطروش في أغنيته "رحنا إلى البندر في شهر نيسان .. نشتي نبيع الفل لكل ولهان * ضيعت أنا فلي وأصبحت هيمان .. روحت أنا والقلب في الشيخ عثمان * ناديت أبيع الفل في الشيخ عثمان .. نادى علي أهيف من شاب روشان * قلي قطفت الفل من أي بستان .. هديت له بالفل من غير أثمان .. هدى بداله لي تفاح ورمان * أهيف وساحر آه وطرف نعسان ** إنت السبب ياخل ضيعت إنسان".