عندما تغيب (عدنية) عدن!

علي سالم بن يحيى

«من الأوبئة الكثيرة التي يلعنها الإنسان فإن الطغيان هو أسوأها» «دانيال ديفو».
ما إن انتهت رحى حرب مليشيات كهوف مران على مدينة عدن، حتى بدت المدينة المدنية الهادئة الوديعة بوجه آخر لما عرف عنها من صفات وقيم وأخلاق!.

لم تهدم الحرب العبثية على عدن منظومة المؤسسات والمباني، والقضاء على مشاريع البنية التحتية المهترئة أصلا، بل هدمت الوجه الجمالي لعدن وأهلها و(عدنيتهم)!.
أحيانا أقول إن ما أنتجته الحرب خاصة في عدن، يعد قليلا بالمقارنة لبشاعتها وبشاعة من أعلنها.

لم تعد عدن تلك المدينة الهادئة، تحولت إلى مدينة أشباح، انتفت جمالياتها، وانتشرت الفوضى بشكل مخيف، وظهرت التشكيلات العسكرية المتعددة على كل شكل ولون، ولم تعد تميز من الحاكم الفعلي لها.
يقول الكاتب «آلان باتون» من جنوب أفريقيا في روايته «أبكي يا بلادي الحبيبة» التي تعد من روائع الأدب العالمي، وحازت على شهرة عالمية؛ بسبب موضوعها الإنساني، وأسلوبها الصادق وهدفها النبيل: «لا شك أن الخوف هو الذي يحكم هذه البلاد، إذ ماذا يستطيع الناس أن يفعلوا إزاء كل هؤلاء الخارجين على القانون؟ من ذا الذي يستطيع أن يتمتع بالبلاد الجميلة؟! من ذا الذي يستطيع أن يتمتع بسني عمره السبعين، وأشعة الشمس وهي تغمر الأرض، ما دام أن هناك خوفا في قلبه؟ من ذا الذي يستطيع أن يمشي بهدوء تحت ظلال الأشجار ما دام هناك خطر؟ من ذا الذي يستطيع أن يرقد آمنا في فراشه ما دام الظلام يخفي له سرا لا يعرفه؟! إن هناك أصواتا كثيرة ترتفع لتنادي بما يجب أن يفعل.. ولكن ماذا يفيد ذلك ما دام هناك صوت يطالب بهذا الشيء، وصوت آخر يطالب بذاك، وصوت ثالث يقول شيئا مختلفا عن هذا وذاك؟!.

أبكي يا بلادي الحبيبة من أجل الطفل الذي لم يولد بعد، وعندما يولد سيرث الكراهية والخوف، لا تجعليه يحب الأرض بعمق، ولا تتركيه يضحك سعيدا عندما يتسرب الماء من بين أصابعه، ولا أن يقف متأملا عندما تصبغ الشمس الغاربة المراعي بلون النار، لا تجعليه يتأثر عندما تغرد طيور هذه البلاد، ولا أن يحب السهل والجبل بقوة؛ لأن الخوف سوف يسلبه كل ما سوف تعطينا إياه»!.
كلمات مؤثرة قالها الكاتب، وكأنه يحاكي عدن وما يُعمل فيها!.

وعلى النقيض من ذلك تعود بي الذاكرة إلى مقال خطه الكاتب محمد زعرور، مدير التوزيع والاشتراكات بمجلة «الرياضي العربي» الكويتية، حينذاك وكتبه عام 1983م، تحت عنوان: «عدن.. الحلم الذي تحقق»، وذلك عندما عقد العزم على زيارتها.
«ربما كان حلما.. أو طموحا، أو من المسائل التي يتداخل فيها الممكن والمستحيل، والتي يتشابك في ثناياها التردد، والتأجيل مع بعض المخاوف.

الحلم والطموح، صار ممكنا، بل صار حقيقة بين يدي، وأنا أعيد أكثر من مرة النظر إلى بطاقة السفر، كي أتأكد من موعد السفر إلى عدن، التي ارتبط اسمها بالجنة كما ارتبط اسم اليمن بالسعادة.. لذلك كان ما يدفعني لاستعجال تلبية الدعوة التي وصلتني، وتقريب موعد السفر، هو التعرف على هذه الجنة، ولمس السعادة، ليس من خلال أقوال الآخرين، وليس أيضا من خلال أحلام اليقظة التي تراود كل إنسان، بل مباشرة، عبر الاحتكاك بأبنائها والسير في شوارعها والتنقل بين مؤسساتها.. ومنذ أن دخلت الطائرة أجواء اليمن السعيد لم أشعر إلا وأن كل ما حولي، وما يحيط بي، يعني عالما آخر مليئا بالجمال، معبأ بروعة الخلق، وقدرة الطبيعة على التشكل لوحات ملؤها الاخضرار والإبداع، وإطارها جهد الإنسان الذي فتت الصخور وقهر الجبال وحولها إلى ما يشبه الجنة!».

ثم يمضي الكاتب: «وإن كانت مشاغل العمل أخذت الوقت الأكبر من أيام الزيارة إلا أن عدن تبقى من خلال مشاهدتي لها بدفء أجوائها وأصالة شعبها، وعفوية أبنائها، وكل ما فيها من صور النعيم هي الحلم الذي تحقق والطموح الذي بات ممكنا، وحملت منه زادا لا ينضب من الكرم ومشاعر المودة، وعاطفة الأخوة بين أبناء الوطن الكبير، ولابد من عدن وإن طال السفر»!.
هكذا تغنى الكاتب بعدن ووصفها بالجنة، بينما اليوم ليست عدن التي كانت، عدن اليوم مدينة مختطفة، اختطفها تجار الحروب واللصوص والحرامية وقطاع الطرق، حولوها إلى ما يشبه القرية (وسلام الله على القرية)، وجعلوا أهلها يندبون حظهم العاثر، إذ كتب عليهم أن تكون مدينتهم الحلقة الأضعف في المشهد الرمادي اليمني، على الرغم من المآسي المتواترة عليها منذ جائحة حرب صيف 94، وحتى حرب (جنون البقر) في مارس 2015م، ودفعت المدينة المسالمة فواتير الحروب بعدد نجوم السماء ورمال الأرض، كي يتلذذ وينعم تجار الحروب، وجبابرة الفساد، وعصابات النهب والفيد في (حضيرة) الأنظمة المتعاقبة الحاكمة وزبانيتها.. وقد قيل إن من الصعب على القابعين في غرف مكيفة بالهواء أن يشعروا بمعاناة من تلهبهم حرارة شمس الظهيرة، وقيل أيضا من يعرف مرة واحدة بخدعة مخجلة، يفقد رصيده حتى وإن قال الحقيقة.

عدن.. الثغر الباسم، المدينة الساحرة التي تأسرك منذ أول وهلة لزيارتها، رغم ما تعانيه من آلام وطمس وتجاهل، تظل سر مكنون في ثنايا النفس. سألت صديقي الذي رحل إليها طالبا العلم والثقافة ولم يعد، ماذا دهاك؟!
قال: «عدن سحرتني.. وفيها وجدت نفسي، والتقطت أنفاسي، هي المعنى الحقيقي للحب والانتماء، هي الروح والفن، هي رائحة الجنة»!، كان ذلك التساؤل مطلع عام 2005م، ونشرته ضمن ثنايا مقال على صدر صحيفتنا الغراء «الأيام» في شهر فبراير من العام ذاته، تحت عنوان: «ومن ذا الذي لا يحب عدن؟».

اليوم أجدني أبحث عن عدن ورائحة فلها وبخورها وعطرها، وإنسانيتها، وحالي كحال الكاتب المصري الكبير مفيد فوزي، بكاء على حال استعصى على الحل وصار من المحال، ومع هذا أرجع وأقول: خذوا الأرض والجغرافيا والتاريخ وأعيدوا لعدن (عدنيتها)!.​


مقالات الكاتب