جماليات الأنسنة تلاشي الوحشنة
د. سعيد الجريري
- لا مستقبل لوطن يضرب فيه المعلم !
- لسنا شرقاً ولا جنوباً لليمن السياسي وكهنوته
- أنور الحوثري من غرابة "الامبريالية" إلى غربة الدار
- حضرموت النفط .. السرطان .. العاهات
الأدب والفن ليسا ترفاً، ولا هما من نوافل الحياة الإنسانية، فبالأدب والفن تدنو إنسانية الإنسان من جمالها وكمالها، ولعل تاريخ الجمال يوقفنا على تحولات البشرية من البربرية والتوحش إلى فضاءات الإرهاف الوجداني الذي كلما استيقظ الوحش في الإنسان استنامه الأديب والفنان بالجماليات، ليعيدا إليه توازنه المفقود.
ولعل هناك علاقة طردية بين الوحشنة في استهدافها الإنسان وعزله عن تاريخه الجمالي، والأنسنة التواقة إلى وصله بما حوله من تفاصيل يومية صغيرة تضج بالجمال، وإعادة رؤية الأشياء والأحياء من منظور جديد، بلون اللحظة بوصفها الحياة الجارية كنهر من موسيقا وألوان وإيقاع شعري.
ولعل رهافة الحس الأدبي والفني من معليات الإنسان، وتكثيف علاقته بالقيم الإنسانية التي تلاشي محفزات العنف في داخله، لتحف به أسراب ملونة، تتمرأى في عينيه معانيَ متجددة لحياة تتجدد في كل نظرة، وتعد بكل ما هو حيّ نابض، يلامس معنى الوجود من حيث هو ، فيفيض على ما/ ومن حوله انسجاماً هارمونياً لا تزاحمه الكراهيات الشائهة.
في كل بلدان العالم المتقدمة هناك عناية بالإجابة عن سؤال جوهري " ما معنى الحياة"، تجتهد مناهج التعليم ومؤسساته وأساليب التعلم وآلياته في البحث عما يجعل لحياة الفرد والمجتمع معنى. وتبدأ محاولات الإجابة من الحضانة والروضة فالمدرسة ثم المعهد والجامعة، حتى تتشكل الشخصية مشبعة بالعناصر الجمالية، لا اكتساب معارف جافة تجفف ما في الإنسان من ذات جميلة هي خلاصة التحول التاريخي العسير من الغلظة إلى الرقة والرفق.
ولعل مجتمعاتنا الصغيرة (المتأخرة للأسف) أحوج ما تكون إلى أساليب صناعة الفرح، وتخفيف الذات من تشوهات بشرية هيمنت بقوة السلطة، فأشاعت ثقافة هجينة كارهة مسفهة للأدب والفن، وأحلت محلهما نمطاً من الخطاب المجافي لصيرورة الحياة، فخلقت شيئاً مما يمكن تسميته بالشيزوفرينا الثقافية، حيث يجمع الفرد بين الشيء ونقيضه، فهو محب للفن والأدب، لكن هناك من يريه فيهما عجباً، فتنازعه نفسه حيناً إلى الإقبال وهو كاره، وحيناً آخر على العزوف وهو محب.
أتذكر في سياق كهذا، أنني كنت أدرس طلاب كلية الهندسة بجامعة حضرموت مادة اللغة العربية وهي من متطلبات الجامعة، أي أنها دروس تذكير بما تعلمه الطالب أكثر من كونها إضافة حقيقية إلى معرفته - وهذا سياق يقتضي تفصيلاً لا مجال له هنا - وكان هناك طلاب يخفقون في الاختبارات التي لا صعوبة فيها. ولي أن أعرض هنا موقفاً ذا صلة بفكرة المقال. كان أحد الطلاب من حضارمة السعودية، وأعدت له الاختبار مرة أخرى، في سياق تعاملي الودي مع الطلاب عموماً، لكنه لم ينجح، فاقترحت عليه أن نشرب شيئاً في كافتيريا الكلية وندردش حول اللغة، فإن كان مدردشاً جيداً، اعتمدت له درجة نجاح. سألته - بعد أن ذوبت المسافة بين الطالب والأستاذ - أن يذكر بيتاً شعرياً مما يستحسنه ويستعذبه، فأطرق صامتاً، مطاطئاً رأسه، يفرك أصابعه حيرة وخجلاً.
لا يحفظ بيتاً شعرياً واحداً! فقلت له: من هو فنانك المفضل أو فنانتك؟ فقال: أعشق (أبوبكر سالم) كثيراً. فقلت له: إذاً، فأسمعنا شيئاً من أغانيه. فقال: ولكن الغناء حرام يا أستاذ. فقلت: هات أبياتاً من أغانيه، فتفاعل وانطلق لسانه. ثم ناقشته في تراكيب الجمل والصور الشعرية، بعيداً عن تعاليم القواعد النحوية، واعتمدت له درجة نجاح مستحقة، لكنه فاجأني بأن لديه إحساساً بالذنب، فهو يحب الأغاني ويشعر أنها تخفف من وطأة إحساسه بالغربة عن أهله، وتهون عليه العيش المختلف في حضرموت، لكنه يشعر بأنه يرتكب خطيئة، فلقد استقر في وعيه منذ الصغر أن الغناء فعل شيطاني.
والآن، وفي لحظة معقدة يبدو أن هناك جيلاً يعيد مساءلة ما تم فرضه من تصورات مغالية حول الفن والأدب، لعل أبرز أمثلتها في المكلا افتتاح مرسم ملتقى الفن مشروع الفنانة التشكيلية عبير الحضرمي التي ترود دروباً مفخخة بمفاهيم مشوهة، وتصورات جافة. ولقد كان الاحتفاء بحدث كهذا جيداً جداً، وهو ما يعزز الثقة في أن الجيل الذي عانى حتى كادت حياته ان تكون أحلاماً مؤجلة سيتجاوز لحظته بوعي أشمل وجماليات كثيرة. وذاك ما عبرت عنه في تعليق على السوشيال ميديا "أثق، كثيراً، بالجيل الجديد الذي تشتعل في أنامله، وتتقد في وعيه، وتختلج في روحه جذوات الإبداع والتفكير الحر المستنير ، الذي لم يلتث بلهاثٍ (أزعر) خلف أراجوزات السلطة والمال والانغلاق، ضاربٍ عرض الحائط بقيم الإنسانية وجمالياتها.
في الأدب و الفن عموماً، ولا سيما الشعر والسرد والتشكيل والموسيقا والمسرح، هناك أحلام مقموعة، أو منتقص من وجودها، كضرورة لا ترفاً أو ديكوراً خارجياً. لكن الإرادة الجمالية هي التي تشكل لحظة التوازن التي طال تغييبها، بدعاوى قاحلة حاولت - واستطاعت للأسف - تصحير الذائقة الجمالية، وتفخيخ الذات بهواجس الدم والجلافة.
ليس مرسماً هذا الذي نُدعى الآن لحضور افتتاحه، بل نوافذ نورانية تنفتح مجدداً، لنطل منها على فضاءات الدهشة، بعد أن ظلت مغلقة، ترقص على حوافها عناكب عمياء".
فهذا خطوة على درب ملوّن بالأدب والفن والجمال والأنسنة التي تلاشي كل ما يختطف الإنسان إلى براري الوحشنة وقفارها.