في الفرات يشرَبُنا التيّار
ماء القصيدة
مُتسوِّلٌ أنا جوّابُ آفاقٍ دون مطيّة،
أحتاجُ فَرْدَتَيْ حِذاءٍ فَحَسْبُ،
ولوْ أني أَهِيمُ مُسَهّداً، تائهاً في وهدة الجَبل،
وأَلْمَحُكِ في التماع الرَّمْلِ أُعجوبةَ ليْلِ الهلالِ،
كذلك دون قَدَمٍ، أكادُ أنْكَشِفُ، ودون خُوذَةٍ،
وأنتِ تنتظرين عِنْدَ عتْبَةِ الكثيبِ جَنْبَ أسَلِ الماءِ المتناغم،
بينما أَقْتَفِي الطريقَ إليْكِ عَبْرَ غَبَشِ الأهْدابِ.
■ ■ ■
هكذا تكلّم البحتريّ
انتبهْتُ وأنا ألتقط ثمار الْبَرْبَرِيس:
كلٌّ يرْتَهِنُ إلى الزاوية فحسبُ.
تقترب الثِّمارُ من نظراتِ الأصابع:
ليستِ الزّاويةُ وحدَها، وإنما القِياسُ أيضاً.
من كِلْتا جِهَتَيِ الجِلْدِ تَكتَمِلُ الرؤيةُ
فَكُلٌّ يُعانقُ شمْسَ اليومِ الزَّعفرانِيّةَ.
■ ■ ■
دارُ بابل
1 (بغداد)
وإذا ما انتهيْتَ إلى هُنَاك،
وقد ادّخرَ حذاءاكَ
دقيقَ تُرابِ الشوارع،
والأزقَّةِ والطُّرُقاتِ،
فَتَعْبُرُ سنونوَّةٌ
الفِناءَ الداخليَّ،
العُشَّ الثرثارَ
كتابةً مسماريَّةً -
والفَمُ
يَقْصِدُ الماءَ.
2
حَمَارَّةُ القيْظِ أمامَ البيْت،
بينما هم يَجْرُؤون على لعِبِ
الكُرَةِ مع الأطفال بين
حَرَسٍ في زوايا
شوارعَ جانبيّةٍ
ثم يَمْضون طُولَ حَدِّ دَجْلَةَ
جَهةَ الجِسْرِ أو يعودون
إلى سقيفة النَّاعِسين
الذين بالكاد يحْكُون ما جرى
قديماً هنالكَ.
3
تضعُ قدَمَكَ
على باطنِها
مثلَ مرّاتٍ كثيرة،
في المرة السابقة
كانت الضفادع أقلَّ
نَقِيقًا، وكان الطَّلُّ
المتفرِّدُ يُلصِقُ
خميرتَهُ اللزِجةَ
بِخَطْوِكَ،
إنه خُبْزُ الشوارع.
■ ■ ■
لَوْنُ الشاي
1
يَرْشُفُ أبو تمّام من كأسِه الصغيرةِ،
هو يَعْرِفُ كلَّ ألوانِ الشَّايِ تَقْريباً،
الشاحِبَ منه أيْضاً
الشايَ باللَّيْمون
الكستنائيَّ الغامقَ جدّاً،
لكنْ لا شيءَ في هذا العالَمِ
يُحْتسَى مِثْل هذا
وهو يَغْلِي.
2
يَضَعُ أبو تمّام مِلْعَقَتَهُ الصغيرةَ
فوقَ الطاولةِ
ويَسْتَفُّ من صحنه
الْبَقِيّةَ المتنقِّلةَ،
هو في عجلةٍ من أمْرِه
أو يُفكِّرُ
جَهْراً، ولكنّه
ينصرفُ الآنَ.
3
لوْنُ الشَّايِ
مِثْلُ درجةِ حَرارةِ
ألوانِه المائيّةِ
مثلُ أُوارِ النّظْرةِ
بيْنَ عشيقيْن
هو
درجةُ حرارةِ
القصيدةِ.
■ ■ ■
يَفاعةٌ
يَهِرُّ الْقَمَرُ في قِمَّة الصَّنَوْبَرَة:
يضع القِطُّ أُذُنَهُ على يدي،
يوقِدُ نارَ عينِه:
الطفولةُ شبيهةٌ بوردة،
إنها وردةٌ،
مِثْلُ وردةٍ.
■ ■ ■
في مُقابِل
بعكس اتجاه عَقْرَبَيِ السَّاعَةِ
يَجُول المزاجُ،
طلِيقاً في إِهابِ الفجائيِّ،
يبْدُو شبيها بِعَجَلَةٍ داخليَّةٍ
بِسُلّمِ درجاتِها،
تكادُ تُماثِلُ آلةً مُسنَّنَةً،
كذلك
بمِقياسِها الزَّمَنِيِّ مقلوباً رأساً على عقب.
■ ■ ■
في سوق الحِلّة
ثلاثُ خطواتٍ فخُطوَتانِ زيادَةً تُثير الغُبارَ،
ولا أزالُ شارداً.
سُعاليَ الجافُّ الخفيفُ يوقِظُني،
أُلامِسُ رُكْبَتَكِ –
أنا الآن
أُواصِلُ المَشْيَ
عَبْرَ عِلمِ الحِسابِ العَطِرِ،
مَتَاهةِ النَّظراتِ والأصواتِ
■ ■ ■
الشارع 40
يتّجِهُ أبو تمّامٍ إلى هناكَ،
يَرُوقُهُ الاصْطكاكُ الْبِلَّوريُّ
لفناجينِ الخَزَفِ
رفيعَةِ الزُّخْرُفِ،
الأسْماعُ مُتَوثِّبَةٌ
مثْلَما
الغَزالةُ عند المورِدِ.
■ ■ ■
طريقٌ وشِعابٌ كثيرةٌ
أنتِ رمْشُ القمَر.
وأنتَ لِسَانُ الشّمْس.
كلاهما يشْرَبُ من النَّهْر.
يتضوَّعُ الليْلُ زُهُورَ نادَرِينَ،
ويَفُوحُ النهارُ ياسميناً:
والماءُ يُشْرِبُ الوجوهَ الظَّمِئَةَ.
يَسِيرُ الجِسْرُ إلى السُّوق،
بدْءاً من خيزُرَان العُدْوَةِ حتى الجِبالِ،
تُفضي طريقُ وشِعابٌ كثيرةٌ
إلى البعيد،
حيثُ أَثَرُ الحجارةِ القديمُ في بَحْرِ الرِّمال.
عند العودة،
يُبْحِرُ نَعْلاكَ
في النَّسيمِ اليابس
الزّافِر يَسَاراً،
بِوجْهٍ يتقدَّمُ،
وإلى الناحية الأخرى
ناحيَةَ الذِّكرى.
تنفض ريحُ الصَّحراءِ
الغُبارَ ِبِسَعفها
عن تنوُّعِ الأصواتِ.
./.
تَلْزَمُ العيونُ
النَّديّةُ الصَّمتَ،
وفي السواقي القديمةِ
تَلْمحُ بعضَ الخنافِسِ.
وفي الخليج النَّهْريِّ لِلْفُرَاتِ يَشْرَبُنا التَّيّارُ.
* Tobias Burghardt شاعر ألماني من مواليد عام 1961، نشر أكثر من 15 مجموعة شعرية، كما ترجم قرابة ستين مجموعة شعرية من الإسبانية إلى الألمانية، وعمل أستاذاً زائراً بمعاهد وجامعات مختلفة في أميركا اللاتينية. يهتم توبياس بوغارْدِتْ بالثقافة العراقية وشارك في تنظيم عدة فعاليات ثقافية عربية ألمانية، من بينها "مهرجان المتنبي" و"مهرجان بابل الشعري" في سويسرا.
** ترجمة: مزوار الإدريسي