شكرا لكل المتضامنيين ولا عزاء بالمخاذلين!

لم أكون اتخيل بانه سوف يأتي اليوم الذي احتاج فيه الى التضامن المدني، ولكنه جاء غصبنا عني، إذ شاءت لي الحالة اليمنية أن أقع تحت طائلة التهديد بالتصفية الجسدية من قوى وعناصر مجهولة الهوية في عدن. وقد كتمت أمري وابلغت السلطات المعنية لعلها تتكفل في وضع حد لهذا التهديد الخطير من عناصر يصعب التكهن بسلوكها وردود افعالها في مدينة بات فيها القتل اشبه بمزحة كما قال احدهم في أحد التعليقات العلنية أخفيت الأمر عن كل أصدقائي وأهلي وانتظرت السلطات والاجهزة المعنية لتقوم بالبحث والكشف عن هوية الشخص الذي هددني والتحقق من أمره، ومنذ أكثر من شهر تم تسريب خبر تهديدي في وسائل الإعلام ووسائل الاتصال الاجتماعي وانتشر كالنار بالهشيم! ومن ليلتها وأن استقبل البيانات التضامنية من الاشخاص والمنظمات من مختلف دول العالم بشكل لم أكن اتوقعه ابدا، وهذا ما منحني حالة من السلوى والسعادة في محنتي القاسية، غير أن الذي صدمني حتى الآن هو ذلك الصمت المريب الغريب العجيب ممن كنت أمنحهم ثقتي واعتقدهم أول من يعنيهم أمري اقصد أولئك الاشخاص والمؤسسات والصحف التي لم ابخل قط التضامن معهم حينما يدعوني للتضامن معهم أو أعلم أنهم بحاجة الى تضامني ! للأسف الشديد لم أجد حتى الآن تفسيرا ممكنا لمثل هذا الموقف المتخاذل. بينما وجدت تضامن رائع من كبار المفكرين العرب ومن شخصيات عالية المكان والقيمة ممن لا اعرفهم ولم يعرفوني من قبل، فشكرا لهم وعظيم تقديري ومحبتي وجزيل الشكر والتقدير لك من أهتم بأمري وكتب وتضامن حتى في القلب وهذا أضعف الإيمان .

أما أولئك المتخاذلين والصامتين الذي التلزموا الصمت وكائن شيئا لم يكن فقد كان موقفهم بالنسبة لي درسا لن أنساه ابدا، لاسيما من أولئك الأشخاص الذين كنت أحسبهم زملاء وزميلات المهنة الأكاديمية والنشاط المدني الثقافي أو المنظمات وألكيانات والمؤسسات التي أحسب نفسي أحد مؤسسيها ونخبها الفاعلة في البلاد العربيةوالأجنبية من ماليزيا والجزائر الى بيروت ومنظمات المجتمع المدني وحقوق الانسان الذين أبلغتهم بأمر تهديدي بوصفه قضية إنسانية عامة وحالة معبرة عن مدى الانتهاكات التي يعانيها الناس كل يوم في مدينة عدن المباحة للمليشات الإرهابية المسلحة برعاية رسمية من أطراف الصراع الأقليمية العربية وأدواتها المحلية في اليمن. وهذا هو ما كتبه عالم الكمبيوتر الروائي العالمي حبيب عبدالرب السروري في أحد منشوراته التضامنية الرائعة البارحة إذ كتب قائلا: " بدأتْ بقتل محافظ عدن وقائد تحريرها من غزو الحوثة والعفاشيين: جعفر محمد سعد،
وانتهتْ أمس بهروب أستاذ الفلسفة والحضارة في جامعة عدن، من مدينته، بعد تهديده بالقتل: قاسم المحبشي.
وبين الحدثين حدث جوهري يشرح بجلاء الهدف من كل ذلك:
قتل أمجد عبدالرحمن ومنع دفنه في مقابر المسلمين.

أروع وأنبل الأوجه العدنية تُقتل هكذا أو تَهرب،
الأول بعد الآخر.

من ينسى أصغر الضحايا: الشاب العظيم عمر باطويل،
وأصغر الهاربين: المبدع محمد علي عطبوش (بعد نشر كتابه عن أكذوبات الإعجاز العلمي)، وعدد طويل؟...

الهدف لكل هذه الجرائم واحد: تحويل عدن إلى كيان قندهاري مظلم،
بدون روح مدنية نيرة حرة واحدة،
تقوده قوى سلفية طائفية قندهارية تبعية مرعبة.

قاتلُ جعفر ومهدّد قاسم غير معروف حتى الآن كما يبدو،
لكن قاتل أمجد ومانع دفنه في مقابر المسلمين معروف منذ حوالي ١٣ شهر:
((المتهم بقتله ومنع الصلاة عليه في مساجد كريتر ودفنة في مقبرة المسلمين في كريتر هو:
معسكر 20يونيو /كريتر،
التابع للحزام الامني بقيادة السلفي المعروف: إمام النوبي))،
كما أكد ذلك نص تقرير لجنة الخبراء التابعة للامم المتحدة.

مرعب جدا هذا الصمت الذي تمارسه الغالبية الساحقة منا حول موضوع القبض على قاتل أمجد ومحاكمته
(إلى درجة يصعب توقعها: عدم ذكر اسم أمجد في منشورات البعض عند ذكر سلسلة الضحايا في عدن منذ تحريرها، لعدم إزعاج المتهمين المعروفين)

يشرح لنا هذا الصمت الذي دام ١٣ شهرا حتى الآن نوع الدولة التي يريد هؤلاء الصامتون صنعها مستقبلا..."
على كل حال لقد علمتني محنتي العديد من الدروس البالغة القيمة والاهمية أهمها:
أولا: أن الحياة المشتركة في مدينة بحرية مثل مدينة عدن الحبيبية لا يمكنها أن تستمر وتنمو دون التضامن المدني الفعّال، وأي استجلاب أي شكل من أشكال التضامنات التقليدية اليها يعني خرابها المؤكد فقد سعيت طول حياتي في عدن من أجل ترسيخ وتعزيز منظمات المجتمع المدني والدعوة الدائمة الى حفظ وتنمية المؤسسات الوطنية العامة، وكنت في مقدمة المتضامنين مع أي شخص ذكرا كان أو أنثى ، مؤسسة أو منظمة أو جماعة تتعرض لأي نوع من انواع الانتهاكات والتعدي.
ثانيا: التضامن ليس فكرة ولا قيمة أخلاقية ولا ثقافة مدنية فحسب بل هو جوهر وأصل كل حياة اجتماعية مجتمعية من مجتمع النمل والنحل والقرود الى مجتمع الانسان العاقل ، ولا وجود لأي مجتمع بدون قيم تضامنية من أي نوع من الأنواع، وليس هناك أي فرق في حقيقته الحاجة التضامنية الفعلية سوى كان ذلك في مملكة الحيوان أو عالم الانسان؛ فقط الفروق تكون بنوعية التضامن؛ أما أن يكون تضامنا فطريا غريزيا كما هو الحال في مملكة النحل والنمل والقرود والغربان ما شابهها وأما يكون تضامنا تقليديا ميكانيكيا بداعي العصبية والحمية وروابط الدم والقرابة والعشيرة والقبيلة والمذهب والطائفة والحزبية وما شابها في من صيغ التضامن التقليدية في حياة الجماعات البدائية التي يكون الانتماء اليها بلا إرادة حرة ولا اختيار وهذا هو نمط التضامن الميكانيكي العمودي حسب دور كهايم ، وأما يكون تضامنا مدنيا عضويا كما هو حال تضامن المجتمعات الحديثة المؤطرة في كيانات وهيئات مؤسسية رسمية ومدنية قانونية، إذ يكون التضامن فيها ذات طبيعة أفقية يعتمد على الحرية الفردية والاختيار الفردي النابع من الذات لا على المرجعيات والهويات السابقة لها ، وباختصار يظل التضامن ضرورة حياتية وصيغة ممكنة لديمومة الحياة المشتركة للكائنات الحية، التضامن واجب مدني سياسي انساني وليس منّة أو مكرمة من المتضامنيين على المتضُامن معهم.


ثالثا: أن المجتمع المدني هو مجتمع الغرباء, إذ أن المجتمع الحميمي يجعل الحياة المدنية أمراً مستحيلاً. فالناس لا يستطيعون تطوير علاقاتهم مع الآخرين إذا عدوها غير مهمة لكونها علاقات لا شخصية. والمجتمع الحميم على عكس تأكيدات أصحابه , هو مجتمع فظ؛ لان الحياة المدنية ( هي النشاط الذي يحمي الناس من بعضهم بعضاً, ويتيح لهم مع ذلك أن يتمتعوا برفقة الآخر) فالعيش مع الناس لا يستلزم ( معرفتهم) ولا يستلزم التأكد من أنهم ( يعرفونك) ... والحياة المدنية تنوجد عندما لا يجعل المرء من نفسه عبأ على الآخرين" على هذا النحو النظري العام يمكن لنا استخلاص: أن المجتمع المدني بوصفه مجالاً للحياة العامة المستقلة عن مجالات الحياة الأخرى، مجال السياسية ومجال القرابة ومجال الاقتصاد، ومجال الدين لا يمكن له أن ينمو ويزدهر ألا في ظل وجود دولة المؤسسات المنظمة بالدستور والقانون. وهذا هو الغياب الكبير بالنسبة لنا في المجتمعات العربية الراهنة.


رابعا: اكتشفت أن جلّ المتضامنيين معي هم من الشرائح الاجتماعية والمدنية التي تنتمي الى مجالات حياة متنوعة خارج الوسط الأكاديمي والأدبي الثقافي بينما كانت نسبة المتضامنين من الوسط الأكاديمي ضئيلة جدا بما في ذلك صمت نقابة الهيئة التعليمية والتعليمية المساعدة في جامعتي الحبيبية جامعة عدن التي ادفع شهريا رسوم الانتساب اليها، وهذا الموقف كان صادما لي رغم انني على علاقة طيبة برئيسها وأعضاء إدرتها.كما صدمني موقف الجماعة الأكاديمية التي كنت أحد مؤسسيها فاختطفتها جماعة ايديولوجية ضيقة الأفق سقيمة الثقافة لا تعرف من الأكاديمية غير اسمها.
خامسا: تبين لي أن معظم المؤسسات والأشخاص من الزملاء والزميلات في الجامعة وخارجة الذين/تن/ سبق وأن سجلت مواقف تضامنية مكتبوبة معهم
في أوقات مختلفة، قد التزموا الصمت المريب تجاه محنتي العامة، وهذا ما كان ومازال مبعث حيرتي واستغرابي!
وبهذا تثبتت قناعتي بأن المدنية والثقافة المدينة ليست مجرد ربطة عنق أنيقة أو عباية ملونة وكلام فضفاض ومجاملات سقيمة وصحيفة إعلانية بلا موقف بل هو قيمة ثقافية نابعة من الضمائر الحرة والحس المدني السليم.
سادسا: أنه لمن دواعي سروري واعتزازي أن محنتي قد ألقت حجرا فاعلة في مياه مجتمعنا المدني وحركتها وفعلتها على نحو لم يكن بالحسبان، وهذا أمر يبعث على السعادة والاعتزاز والشرف.
شكرا لكم أصدقائي الاعزاء وصديقاتي العزيزات المتضامنين من مختلف الشرائح الاجتماعية والمجالات الحياتية لقد غمرتوني بلطفكم الحميم واشعرتوني بانني أنسان جدير بالتضامن والاحترام، دمتم بخير وسلام ولن أنسى ما حييت أسماءكم الكريمة التي منحتني العزاء والسلوى في محنتي التي هي محنة وطن مباح لكل الشرور والظلامات.
ختاما اقول في هذا الشهر الكريم اللهم
نسألك اللطف والسلامة والثبات والاستقامة على الحق والكرامة والحريّة والإنصاف والعدالة والخير والجمال.