شحة المياه في العراق تنذر بعواقب اقتصادية وديموغرافية
نهاية تقاليد زراعية عمرها آلاف السنين
رغم أن الزراعة لا تساهم سوى بنسبة ضئيلة من الناتج الإجمالي القومي في العراق، إلا أنها مازالت مصدرا لعيش ملايين العراقيين، ويمكن لحدوث تغييرات كبيرة فيها أن يؤثر على حياتهم بشكل كبير.
ويوشك العراق اليوم على دخول مرحلة زراعية حرجة غير مسبوقة، بعدما قلصت كل من تركيا وإيران إمدادات المياه في نهري دجلة والفرات بسبب إنشاء العشرات من السدود على منابع النهرين في كلا البلدين.
ونظمت أعداد كبيرة من المزارعين تجمعات احتجاجية في مناطق عديدة في محافظتي الديوانية والنجف الأحد، احتجاجا على قرار الحكومة الاتحادية بحظر زراعة المحاصيل الأساسية التي اعتادوا على زراعتها.
وقررت وزارة الزراعة العراقية في 17 يونيو الجاري، حظر زراعة محاصيل الأرز والذرة الصفراء والذرة البيضاء والسمسم والقطن والدخن وزهرة عباد الشمس والماش من الخطة الصيفية، بسبب تدني إمدادات نهري دجلة والفرات.
وقطع مئات المزارعين الطريق الرابط بين محافظة الديوانية ومحافظتي النجف والمثنى، مطالبين الحكومة الاتحادية بتعويضهم ماليا، جراء منعهم من زراعة المحاصيل الصيفية.
وقال كريم حماش أحد مزارعي الديوانية “نحن قضينا عشرات السنوات في مجال الزراعة، ولم نمنع سابقا من زراعة أراضينا رغم أن شح المياه قضية ليست آنية، بل هي ممتدة منذ سنوات طويلة”.
وأضاف أن “هناك مؤامرة على المزارعين العراقيين عبر منعهم من الزراعة، وإفساح المجال أمام البضائع المستوردة، حتى يستمر الفساد على حساب آلاف المزارعين وعوائلهم”.
يعاني العراق منذ سنوات من انخفاض متواصل في الإيرادات المائية عبر نهري دجلة والفرات، وفاقم أزمة شح المياه كذلك، تدني كميات الأمطار الساقطة في البلاد على مدى السنوات الماضية.
وحذر المزارعون الحكومة الاتحادية خلال التظاهرات من أنهم سيلجأون إلى خيارات لم يكشفوا عنها، في حال أصرت الحكومة على تطبيق خطتها بمنع المزارعين من الاستفادة من أراضيهم وحجب المياه عنها.
وتعاني الزراعة في العراق رغم المقومات الكبيرة من حالة من الانهيار بسبب غزو المحاصيل الإيرانية والتركية وضعف البنية التحتية وتوقف معظم الخدمات الحكومية للمزارعين، بعد أن كانت تحقق الاكتفاء الذاتي على مر التاريخ حتى عام 2003.
لم تتمكن الحكومات المتعاقبة على إدارة البلاد منذ ذلك الحين من التوصل إلى اتفاقية ملزمة مع تركيا وإيران، تحقق الأمن المائي للعراق، بالتزامن مع عزوف ريفي واسع عن الزراعة، ونزوع نحو العمل في أجهزة الجيش والشرطة، التي صارت تمنح رواتب مجزية، عقب الإطاحة بالنظام السابق.
وترافقت هذه العوامل، لتحوّل الزراعة من ركن أساسي للاقتصاد، إلى عامل هامشي، في موازاة تنامي عمليات استيراد المحاصيل الزراعية من دول الجوار، التي يقول عنها خبراء إنها سبب رئيسي في استمرار تركيا وإيران بسياستهما المائية لتعطيش العراق الذي صار يشتري منهما كل شيء زراعي تقريبا.
وتلقت الحكومات العراقية المتعاقبة منذ 2003 الكثير من اللوم لعجزها عن مواجهة عزوف الفلاحين العراقيين عن الزراعة، فيما يقول مراقبون إن بعض المسؤولين العراقيين تواطأوا مع دول مجاورة في هذا المجال.
وبسبب سياسة المحاصصة الطائفية والقومية في توزيع المناصب الوزارية، لم يشغل حقيبتي الزراعة والموارد المائية أي وزير متخصص منذ 2003.
وتشكل الصادرات التركية والإيرانية الزراعية إلى العراق، جزءا أساسيا من عملية التبادل التجاري بين بغداد وكل من أنقرة وطهران. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل ذهب الموردون العراقيون إلى إدخال محاصيل زراعية من الأردن والكويت والسعودية ودول أفريقية عديدة إلى العراق.
لكن الأزمة المائية الأكبر لاحت للعراق، في مطلع مايو، عندما بدأت تركيا ملء أحد أكبر سدودها، مقلصة حصة نهر دجلة الذي يمر داخل الأراضي العراقية إلى معدلات أرعبت السكان. وصار مشهد انحسار المياه في أجزاء من مجرى نهر دجلة الذي يصل إلى جنوب العراق، مألوفا منذ مطلع الصيف.
حدث هذا بالتزامن مع قطع إيران إمدادات رافد رئيسي من أراضيها لنهر دجلة، بحجة ندرة مياه منابعه.
وبدلا من أن تلجّأ الحكومة العراقية إلى الضغط على تركيا وإيران لتعديل هذه السياسة، أقرت برنامجا مثيرا للجدل، يقضي بمنع زراعة عدد من المحاصيل التي تتطلب مياها وفيرة.
ويعرف العراق بزراعة نوع محلي من الرز هو “العنبر” الذي يمتاز بجودته وارتفاع ثمنه ويعد من المحاصيل الزراعية العراقية النادرة التي تشهد طلبا كبيرا في دول الخليج. لكنه يعتمد على طريقة الإغراق المائي معظم شهور الصيف ويسبب هدرا مائيا كبيرا.
ويوجه مختصون انتقادات واسعة للحكومة، التي تقاعست في تبني مشاريع تعدل طريقة زراعة هذا المحصول، بما ينسجم وواقع شحة المياه.
ويقول مهدي القيسي مساعد وزير الزراعة إن وزارته عرضت خطتها الزراعية على وزارة الموارد المائية، لكن الأخيرة اعتذرت عن تبنيها. وهو ما دفع لاتخاذ قرار منع زراعة 8 أنواع من المحاصيل.
ويقول وزير الموارد المائية حسن الجنابي، إن ضرر السد التركي على العراق سيكون أشد في الموسم الزراعي المقبل. ويؤكد أن الخزانات تحتوي على نحو 17 مليار متر مكعب من المياه حاليا، وهي كافية لتمرير الموسم الزراعي في الصيف الجاري.
وأضاف أن “العراق سيعمل على توقيع اتفاقية مع الجانب التركي للحصول على حصة مائية كافية.. إذ ليس لدينا سوى الحوار والتفاهم والتفاوض مع تركيا وإيران” لأن المياه تنبع من أراضيهما.
ويحذر رئيس الاتحاد العام للجمعيات الفلاحية التعاونية في العراق حيدر عبدالواحد العصاد من “هجرة ونزوح الفلاحين بسبب شحة المياه التي ستسبب جفاف الأراضي الزراعية وخسائر في الثروة الحيوانية، ناهيك عن الأمراض والأوبئة التي ستنتشر في المناطق المتضررة”.
وفضلا عن الأضرار الاقتصادية والبيئية، تهدد شحة المياه بإثارة نزاعات عشائرية بين سكان المحافظات المتجاورة، التي يمر فيهما نهرا دجلة والفرات وروافدهما.
وخلال الشهور الماضية، وقعت نزاعات بين عشائر منطقة المشخاب المعروفة بزراعة الأرز، التي تتبع محافظة النجف، مع عشائر من محافظات مجاورة، بعدما عمدت الأولى إلى تحويل مسار مياه الري لتسقي أراضيها.
والسبت الماضي، اقتحم أفراد من إحدى العشائر في النجف، منشأة مائية تشغل سدا فرعيا، وأغلقوا أربعا من بواباته الست، ليضمنوا صعود مياه الري إلى أراضيهم، ما دعا وزارة الموارد المائية إلى طلب تدخل السلطات الأمنية، التي طوقت الموقع، وأتاحت لموظفين حكوميين فتح البوابات المغلقة.
وتعليقا على هذه التطورات، أصدرت وزارة الموارد المائية توضيحا، وصفت فيه الأمر، بأنه “اعتداء وتخريب ومحاولة للاستحواذ من دون وجه حق على الحصص المقررة للمحافظات الجنوبية”.
ويقول مراقبون إن هذه النزاعات مرشحة للتصاعد في الشهور المقبلة، مع تنامي شحة المياه، وعجز الحكومة عن إيجاد حلول للسكان الذين مازالوا يعتمدون على الزراعة في عدد من المناطق.