شيء عربي... غير الظلمة
خير الله خير الله
- اليمن أسير الحوثيين والفراغ
- ما غيّره سقوط الشاه…
- ما مفاجأة ترامب المقبلة…
- ماذا يُعدّ الحوثي لمبعوث الأمم المتحدة
أن يكون المرء في أبوظبي في مثل هذه الأيّام من السنة 2018، يجعله يكتشف أن في العالم العربي شيئا آخر غير الظلمة. هناك نقاط مضيئة في المنطقة. إحدى هذه النقاط عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة التي أسّسها الشيخ زايد بن سلطان الذي احتفل الإماراتيون، ومعهم العرب المستنيرون، بالذكرى المئة على ولادته في العام 1918.
ليس وجود زوار وسياح من العالم كلّه تقريبا في جزيرة ياس، حيث الحلبة التي تستضيف السباق الأخير من بطولة العالم لسائقي السيارات (فورمولا وان)، مجرّد صدفة. أن يكون كلّ هؤلاء البشر في الإمارات هذه الأيّام لحضور سباق “الجائزة الكبرى لأبوظبي” يمثل اعترافا بإنجازات الشيخ زايد، الرجل الذي رحل عن عالمنا… لكنّه استطاع، قبل رحيله، تحويل بلده من صحراء إلى مساحة خضراء بفضل الرؤية التي تمتع بها.
كانت هذه الرؤية، التي محورها الإنسان، وراء قيام دولة الإمارات التي تعتبر الوحدة العربية الوحيدة التي حققت نجاحا. نجحت التجربة الوحدوية للإمارات نظرا إلى أنها استطاعت خلق مصالح مشتركة بين كل الإمارات التي يضمها الكيان الذي نشأ مطلع سبعينات القرن الماضي. كانت هذه الرؤية التي امتلكها الشيخ زايد وأورثها إلى أبنائه وراء كل ما قدمته الإمارات طوال سنوات، ولا تزال تقدّمه، لليمن أو لمصر أو للبنان ولدول عربية أخرى… لا يمكن تجاهل العلاقة التي أقامها الشيخ زايد مع اليمن، وكيف أنّه كان وراء إعادة بناء سدّ مأرب في العام 1986 كي يبقى اليمنيون في أرضهم.
لا يمكن تجاهل ما قدمته الإمارات لمصر، خصوصا في العام 2013 حين دعمت، مع المملكة العربية السعودية والكويت، شعبها في تخلّصه من حكم الإخوان المسلمين وتخلّفهم. ليس سرّا أيضا أن الإمارات كانت دائما داعمة للبنان حيث قامت بحملة للتخلص من الألغام في جنوبه. بنت في لبنان، بين ما بنت، مستشفيات ومدارس واستثمـرت في كـلّ ما لـه عـلاقة بالتنمية لعلّ لبنان يستعيد عافيته يوما بعد الهزة التي تعرض لها في ذلك اليوم المشؤوم من العام 2005، عندما اغتيل رفيق الحريري.
صارت الإمارات في مثل هذه الأيّام من كل سنّة قبلة لعشاق رياضة سباقات السيارات. يأتون بعشرات الآلاف ليصبحوا شهودا على ما يستطيع بلد عربي تقديمه عندما تتوافر لدى قياداته الرغبة في خدمة أبناء الشعب وكلّ مقيم في البلد. في الإمارات يشعر الزائر بالأمان. يشعر في الوقت ذاته أن هناك مواطنين مندفعين لخدمة بلدهم. تحوّل هؤلاء إلى متطوعين موجودين في كلّ جزيرة ياس. مهمة هؤلاء مساعدة أي زائر يطلب خدمة ما، بما في ذلك الوصول إلى المكان المخصص له في المنصات المخصصة للمشاهدين على حلبة ياس.
في النهاية، لا شيء ينجح مثل النجاح. يتجاوز الأمر نجاح حدث عالمي مثل سباق “فورمولا وان” في أبوظبي. إنّه نجاح يعطي فكرة عن تطوّر مجتمع وبلد ومؤسسات الدولة في الإمارات العربية المتحدة.
عَكَسَ نجاح السباق الذي أجري الأحد الماضي وجود إرادة سياسية حقيقية تستهدف استخدام الثروة من أجل الاستثمار في كلّ ما هو إيجابي وحضاري، بعيدا عن أي عقد من أيّ نوع. هناك أسس واضحة لمشروع يضع الثروة في خدمة الإنسان قبل أيّ شيء آخر. إنّه مساهمة في بناء الإنسان. هكذا بكل بساطة. الإنسان محور تجربة الإمارات.
الأكيد أنّ أهم ما يخرج به من حضر “الجائزة الكبرى لأبوظبي”، وهذا اسم السباق الذي انتهت به بطولة العالم لسائقي السيارات، التطوّر الذي طرأ على الإنسان في دولة الإمارات العربية المتحدة.
لعلّ أكثر ما يلفت الزائر هو وجود المواطن الإماراتي في كلّ مكان من أجل خدمة الزائر، وتقديم صورة حقيقية عن التطوّر الذي طرأ على المجتمع على كلّ صعيد. بعد عشر سنوات، هي عمر “الجائزة الكبرى لأبوظبي”، يصعب إيجاد ما يضاهي الدقّة في تنظيم حدث رياضي بهذه الأهمّية. كلّ ما يمكن قوله إن تنظيم السباق كان في المستوى الذي بلغته السباقات التي تجرى في مناطق مختلفة من هذا العالم، من أستراليا، إلى القارة الأميركية، بشمالها وجنوبها ووسطها، وصولا إلى الدول الأوروبية.
لم تعد أبوظبي مركزا للمصارف العالمية الكبيرة ولشركات النفط الكبرى ولمشاريع إنمائية ضخمة وللطاقة النظيفة. لم تعد مركزا لاستقطاب المتاحف العالمية مثل غوغنهايم واللوفر ولكبرى الجامعات، أو لمعلم كبير مثل مسجد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. إنّها فوق ذلك كلّه مكان لصنع إنسان عربي جديد يعرف قيمة العمل الجدّي. هذا ما يفعله الإماراتيون. إنّهم لا يخجلون من العمل. العمل صار ملازما لصفة المواطن، بل موضع فخر له.
لم يأت هذا التطوّر من فراغ. لدى العودة إلى التراث الذي خلفه الشيخ زايد، نجد أنّه عرف كيف يبني الاتحاد ويبني المواطن
في الوقت ذاته. ربط بين العلم والعمل والحداثة والإنجاز على كلّ صعيد. البلد صار أخضر. تغلّب على الصحراء. المناخ صار أقلّ قساوة تجاه الإنسان. عندما يتحدّث الزائر إلى مواطنين إماراتيين يكتشف أنّ الشاب لم يعد، إلى حدّ كبير، اتكاليا. إنّه يبحث عن
اكتساب خبرة في كلّ المجالات، إن عن طريق الدراسة الجامعية أو تحصيل اللغات الأجنبية، على رأسها الإنكليزية.
فوق ذلك كلّه، بات الشاب الإماراتي بعد تقديم شهداء في اليمن، يعرف معنى التضحية من أجل الدفاع عن بلده والمحافظة على أمنه. لا تُبنى الجيوش الحديثة من دون تضحيات ومن دون تجربة خوض معارك حقيقية مع أعداء الوطن. تلك النقطة المضيئة التي اسمها “الجائزة الكبرى لأبوظبي” لا تعني غض الطرف عن التحديات التي تواجه دولة شابة مثل الإمارات العربية المتحدة، التي تحتفل هذه الأيّام بالعيد الوطني السابع والأربعين لقيام الاتحاد في الثاني من كانون الأوّل – ديسمبر من العام 1971.
قبل أيام قليلة من سباق “الجائزة الكبرى لأبوظبي”، زار الإمارات الأمير محمد بن سلمان وليّ العهد السعودي. كانت الزيارة التي استهلّ بها محمد بن سلمان جولة خارجية دليلا على عمق العلاقات بين الإمارات والسعودية. وكانت دليلا على أن التكامل العربي ممكن، وأن التحديات التي تواجه كلّ دولة من دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية واحدة.
أكثر من ذلك، كانت تلك الزيارة دليلا على وعي عميق لخطورة ما يدور في المنطقة، خصوصا في ظلّ المشروع التوسّعي الإيراني الذي يسعى بعض الانتهازيين، قصيري النظر، إلى التقليل من خطورته وأبعاده.
تمثل الإمارات، التي تركّز على الاهتمام بشعبها وربطه بثقافة الحياة، نموذجا عربيا مختلفا. إنّه نموذج الدولة القادرة على مواجهة التحديات الإقليمية من جهة، والانصراف في الوقت ذاته إلى الاهتمام بالداخل من جهة أخرى. هذا هو التكريم الحقيقي للشيخ زايد، رحمه الله، والوفاء لإرثه.