الجنوب العربي يرسم حدود الدولة بقرارات سيادية

في الجنوب العربي، تتحرك الإرادة السياسية بخطى واضحة، يقودها المجلس الانتقالي الجنوبي برئاسة القائد عيدروس الزبيدي، نحو هدف لا يقبل التأجيل ألا وهو استعادة الدولة بحدودها السيادية الكاملة.

وقد أدهش العالم أنه خلال ديسمبر 2025، تحوّل الخطاب السياسي إلى خطة تنفيذ واقعية وعملية، وتحولت الحشود الشعبية إلى وثيقة تأييد مفتوحة، تُثبت أن مشروع الاستقلال تجاوز محطة الفكرة، وأصبح واقعا يرسم الجغرافيا على قواعد الدولة.

تابعنا في الأيام الأخيرة الحشود المليونية في جميع محافظات الجنوب التي عززت قرار الزبيدي الميداني، كما ارتفعت الخيام السياسية كما ترتفع أعلام دولة الجنوب، فبدا المشهد وكأنها لحظة يقظة كبرى، تضع الجنوب العربي كلاعب رئيسي في المعادلة الإقليمية. وقد أبهرت عدن الجميع، حيث تحركت جميع مؤسسات الدولة بخريطة تنفيذ صارمة، تعيد تنظيم البناء الإداري والمالي، وتُطلق حملة شاملة لبناء مؤسسات الكفاءة والشفافية.

منهجية الزبيدي في إدارة المشهد لا تترك هامشا للضبابية. توجيهاته خلال لقاءات ديسمبر ركزت على تثبيت ركائز الدولة، وإعادة ضبط العلاقة بين السلطة والشعب، وبين القيادة والميدان. صحيح أن المجلس الانتقالي طالب المجتمع الدولي والدول العربية بضرورة وأهمية "إعادة الحق لأصحابه" لكنه أيضا، راح يستمد شرعيته من الميدان، ومن تماسك الجماهير خلفه.

أعتقد أن الانتصارات العسكرية الأخيرة، خاصة في وادي حضرموت، دفعت المشروع الجنوبي خطوة متقدمة نحو لحظة الإعلان الرسمي. فقد وصف الزبيدي استعادة القرار من وادي حضرموت بأنها لحظة تاريخية توازي لحظة الاستقلال الأول، وتؤكد أن الجنوب العربي يستعيد قراره من عمق الميدان.

كذلك أكد الزبيدي أن حماية الأرض والسيطرة على القرار الإداري والعسكري تمثل خط الدفاع الأول عن الجنوب، وأن أية دعوات لانسحاب الجنوبيين من أراضيهم تتجاوز حدود المنطق، وتتجاهل معادلة القوة الجديدة. الجنوب يمتلك القرار، ويحمي حدوده، ويعيد تعريف علاقته مع الجميع، ضمن رؤية واضحة تقوم على تثبيت الاستقلال الجنوبي على الأرض أولا.

في المشهد الإقليمي، يفرض الجنوب العربي حضوره كحليف مركزي في منظومة الأمن الخليجي، وكركيزة استقرار في الممرات البحرية الاستراتيجية، فنحن نعلم أنه من مضيق باب المندب حتى حدود المهرة، فإن الدولة الجنوبية القادمة تملك مفاتيح الأمن الإقليمي، وتدير الشراكة مع الخليج بعقل استراتيجي يرى التحديات كما هي: الحوثي مشروع إيراني متقدم، والإخوان مشروع تخريبي متنقل، والجنوب المشروع الوحيد القادر على كسر هذا الطوق.

في الشمال اليمني، يفرض تحالف الحوثيين والإخوان مشهدا قاتما، تتحكّم به الخرافة الطائفية وتكتيكات التمكين الحزبي. وقد لاحظنا كل ذلك منذ لحظة سقوط صنعاء، فقد كانت المعركة عملية اختطاف سياسي محكمة قادتها مليشيات الحوثي بالتواطؤ المباشر مع أجنحة الإخوان داخل مؤسسات الدولة، وهذا التحالف غير المعلن رسم مسار الانهيار، وفتح بوابة الجحيم على اليمنيين في الشمال من جهة وعلى الجنوب العربي من جهة أخرى. فيما تغلغلت منظومات الفساد في ما يُسمى بالشرعية، وأصبحت مؤسسات الدولة واجهات لحماية المصالح الخاصة.

في المقابل، تتبلور شرعية صلبة في الجنوب، يتصدّرها المجلس الانتقالي الجنوبي بقيادة عيدروس الزبيدي، مدعوما بحشود مليونية، ومشروع سياسي واضح، ومؤسسات تدار بكفاءة وانضباط. هذه الشرعية تنبع من الأرض والناس، لا من الفنادق أو المكاتب المؤجرة. الجنوب العربي يقدّم نموذج الدولة، بينما تغرق جغرافيا الشمال في مشاريع الخراب، التي تتغذى على وهم السلطة ومسكنات الخارج.

المجلس الانتقالي اليوم يمارس وظيفة الدولة بكل تفاصيلها، من فرض الأمن إلى إدارة الموارد، ومن إعادة بناء المؤسسات إلى صياغة الخطاب السياسي الدولي. ويضع الشراكة مع الخليج على أسس جديدة، تحترم السيادة وتعزّز المصالح. وأصبحت عدن حقا مركز قرار استراتيجي في معادلة الشرق الأوسط.

في المراجع التاريخية نجد أنه في القرن الثاني قبل الميلاد، تمكنت مملكة أرمينيا الكبرى من ترسيخ استقلالها السياسي عن الإمبراطورية البارثية، وصاغت لنفسها هوية دولية مستقلة في وجه القوى الإقليمية المتنافسة. قيادة "أرتاشيس" الأول أطلقت برنامج بناء الدولة، وأعادت كتابة الذاكرة القومية الأرمينية بوصفها مشروعا سياديا، يقوم على السيادة الإدارية والهوية الحضارية، وهذا النموذج التاريخي يُظهر أن الانفصال السياسي، عندما يتكئ على قيادة واضحة وإرادة جامعة، يصنع دولا تصمد في وجه العواصف الإمبراطورية.

كذلك، وإذا عدنا لأصقاع التاريخ نجد أنه عند تفككت إمبراطورية الإسكندر الأكبر، لم تُعد الأقاليم إلى نقطة العدم، بل خرجت منها كيانات سياسية مستقلة ذات سيادة واضحة. من رحم هذا الانقسام، فوُلدت الإمبراطورية البطلمية في مصر، تحت قيادة بطليموس، والإمبراطورية السلوقية في الشرق، تحت قيادة سلوقس. هذا التشظي السياسي دشّن مرحلة جديدة من التمايز الحضاري والنمو المحلي، وأثبت أن الانتقال من المركزية إلى السيادة الجزئية يمكنه أن يُنتج استقرارا إقليميا على المدى الطويل.

لذلك فإن الواقع السياسي المحتم الآن يتحرك بثقة نحو إعلان دولة الجنوب العربي والسيادة على كل أراضيها التاريخية، خاصة وأن جميع المؤسسات المحلية تعلن انحيازها للمشروع السيادي، والجماهير الجنوبية تُجدد تفويضها للقيادة في كل ميدان، كما شاهدنا خلال الأيام الثلاثة الماضية، فأصبحت كل المؤشرات، من الأرض إلى الخطاب، تؤكد أن لحظة الاستقلال الثاني أصبحت أقرب من أي وقت مضى، وأن الجنوب العربي يستعد لصياغة دستور جديد، يعيد الاعتبار للتاريخ، ويصنع المستقبل على قاعدة صلبة من الشرعية الشعبية والسيادة الكاملة.