سَفِيرُ لُغةِ الضَّاد وأوَّلُ عربي يُمْنح أرفع وسامٍ تربوي في روسيا
د. علي صالح الخلاقي
- أهمية وصول الرئيس عيدروس الزبيدي إلى مركز القرار الدولي
- (أبو اليمامة) القائد الشهيد الأكثر حضوراً
- لا تغضب
- تهانينا للمَهْرَةِ بولادة جامعتها
(إنه مجاهدٌ حقيقي..ولمن يريد أن يعرف ما هو الجهاد؟ ومن هو المجاهد؟، فأمامكم الآن المجاهد وثمرة جهاده).
هناك أشخاص يبدعون ويتفوقون ويصنعون النجاح أينما حلوا أو رحلوا، داخل وطنهم أو في أيٍّ من بلاد الله الواسعة التي يجدون فيها مجال عملهم التخصصي ويحققون ذاتهم، بعد أن سُدت أمامهم الأبواب في وطنهم، لأن حياتهم لا تحلو إلا بالعطاء المثمر، ولا يجدون المتعة واللذة إلا في انغماسهم بعملهم الذي اختاروه عن قناعة، وأخلصوا له إيما إخلاص، فاستحقوا الإعجاب والتقدير والتكريم وأصبح لهم شأن ومكانة مرموقة في تلك البلدان، قد لا يجدونها في وطنهم وبين أبناء جلدتهم، والأمثلة كثيرة من رجالات العلم والأدب والثقافة والفن والرياضة..الخ.
من هؤلاء هامة تربوية أكاديمية وثقافية، استقربه الحال في تتارستان، وأصبح له شأن وأي شأن، كأهم شخصية عربية مؤثرة في عاصمتها "قازان"، بعد أن قُوبل في وطنه اليمن بالجحود والنكران، وكاد أن يصبح رقماً يطويه النسيان، ضمن ما عُرف بحزب (خلّيك بالبيت)..أنه مدير المركز الثقافي العربي "الحضارة" في جمهورية تتارستان- روسيا، البروفيسور د.محمد صالح العماري، الذي يتحمل إدارة المركز منذ تأسيسه قبل قرابة العقدين وحتى اليوم.
تذكرني سيرة ونجاحات د.محمد صالح العماري في بلاد الروس وتتارستان، بشخصية مصرية مماثلة كان لها شأن عظيم في روسيا في القرن التاسع عشر، هو الشيخ الأزهري محمد عياد الطنطاوي، وما يجمع بينهما ليس اسم محمد فقط..بل الظروف والنتائج المتشابهة، فمحمد عياد الطنطاوي تخرج من الأزهر الشريف ودفعت به ظروف الحياة التي أَعْيَتْهُ في مصر إلى السفر إلى بلاد روسيا القيصيرية ليعمل في تدريس اللغة العربية لمدة خمسة عشر عاما متواصلة، وهو الأمر الذي تفوق فيه حتى أصبح رئيساً لقسم اللغة العربية بجامعة بطرسبورج؛ وقد وصلت مكانته هناك إلى أن قَدَّم له القيصر الشكر على هذه الجهود في عام 1850م، وقد انعكس ذلك على كتابات الروس عنه إبان تلك الفترة، وله كتاب اسماه "تحفة الأذكياء بأخبار مملكة الروسيا" دوَّن فيه انطباعاته خلال فترة اقامته عن روسيا وعادات وتقاليد الشعب الروسي.
وهكذا هو حال د.العماري إليه الذي فضل العودة لخدمة وطنه اليمن بعد تخرجه بشهادة الدكتوراة في علم التربية، لكن للأسف لم تتحقق رغبته ولم يُلتفت إليه، بل رُفض قبوله استاذاً في جامعة عدن بحججٍ واهية من قبل ممثل قوى النفوذ العفاشي حينها المدعو (راصع) الذي لخبط أوضاع الجامعة بعد توليه رئاستها عقب الشخصية الأكاديمية القديرة د.صالح علي باصره(رحمه الله)، فكان أن ألغى كل الأسماء التي تم إقرار قبولها في عضوية الهيئة التدريسية في عهد سلفه "باصرة"، ومن ضمنهم د.العماري، وبعد متابعات عديده ومضنية وجد كل الأبواب التي طرقها مؤصدة أمامه، ولم يكن له من خيار سوى العودة إلى (قازان) ليواصل مشواره العلمي والعملي، واستقر للعمل في جامعتها بعيداً عن أسرته وأهله ووطنه، وعمل بكل جد وإخلاص وتدرَّج في الألقاب العلمية حتى حصل على الأستاذية (برفيسور) وأصبح الآن في تتارستان، اسم يُشار إليه بالبنان، خاصة في الوسط الأكاديمي والثقافي في العاصمة "قازان" كما التمست ورأيت بأم العين، وليس الخَبَر كالعِيَان، حيث يُعرف عنه هنا أكثر مما يُعرف عنه في وطنه، أو في مدينته عدن. وللتدليل على ذلك يكفي أن نعرف حجم المهام التي أُسندت إليه والمسئوليات التي تدرج فيها وما حظي به من تقدير وتكريم.
ومِثْل الشيخ الطنطاوي ارتبط د.العماري بشكل رئيسي بتدريس اللغة العربية منذ 18عاماً وحتى الآن، وتخرج على يديه المئات ممن أجادوا لغة الضاد وأصبح العديد منهم الآن في مراكز مرموقة ومهمة في جمهورية تتارستان، يذكر منهم على سبيل المثال: رُوسلان كبيروف النائب الأول لوزير الاقتصاد والتجارة الخارجية، تيمور خيرالدينوف مدير الممثلية الإقتصادية والتجارية لجمهورية تتارستان في الإمارات العربية المتحدة، السيار موفلحانوفا مدير دائرة أسيا وأفريقيا في رئاسة جمهورية تتارستان، راميل غاريبوف مدير مدرسة الموهوبين في مقاطعة نيجني كامسك، إيمما عاليموفا أستاذة اللغة العربية في جامعة قازان الفيدرالية ونائبة مدير مركز "الحضارة"، سُومبل سابيوتوفا أستاذة اللغة العربية في جامعة قازان ونائبة مدير مركز " الحضارة"، رافيس زاكيروف نائب رئيس الجامعة الإسلامية الروسية، نائلة منغازوفا رئيس قسم علم اللغات في معهد الآداب بجامعة قازان، وليسان جلال وفاطمة شايدولنا أستاذتا اللغة العربية في مركز "الحضارة" ومؤسستا أشهر مركز لتعليم اللغة العربية عبر الإنترنت " العربية أون لاين"، وغيرهم كثيرون موزعين في مختلف مناطق روسيا الاتحادية وخارجها.
وألف د.العماري خلال سنوات عمله عدداً من الكتب المتخصصة في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها وفي الأدب العربي وصدرت ضمن مطبوعات البرنامج الفيدرالي الروسي للدراسات الإسلامية وثقافة الشرق. وشغل خلال سنوات عمله العديد من المناصب منها: رئيس قسم اللغات الشرقية في المعهد الإقليمي – التتاري الحكومي لمدة 4 سنوات، ثم رئيس قسم علم مقارنة اللغات في معهد العلوم الإنسانية الحكومي التتاري لمدة خمس سنوات، ثم رئيس كرسي اللغة العربية وآدابها في الجامعة الإسلامية الروسية لمدة سنتين ونصف، وهو اليوم أستاذ علم التربية واللغة العربية في جامعة قازان الفيدرالية - روسيا الاتحادية، ومنسق العلاقات العلمية والثقافية بين المؤسسات التعليمية العليا في جمهورية تتارستان وجامعات العالم العربي، وعضو الأكاديمية الدولية لعلماء التربية ومقرها موسكو، وعضو مجمع الإستشراق في روسيا الاتحادية، والأستاذ الفخري لروسيا الإتحادية وعضو هيئة تحرير المجلة العلمية المحكمة " الدراسات العربية الأوراسية"، فضلا عن إدارته لمركز "الحضارة"، ودعمه المتواصل لنشاط إتحاد الطلاب العرب في تتارستان، وقيامه بتنظيم دورات التدريب والتأهيل وإعادة التأهيل لمعلمي اللغة العربية ودارسيها إلى بعض البلدان العربية، منها مصر وسوريا والمغرب، وكذا تنظيم المسابقة السنوية الكبرى في اللغة العربية على مستوى روسيا الإتحادية، وفعاليات أيام الثقافة العربية في جمهورية تتارستان بالتعاون مع سفارات الدول العربية والسلطات المحلية في تتارستان.
وقد جمع ويجمع باقتدار بين هذه المسئوليات والمهام الجسمية التي تأخذ معظم وقته وجهده، لكنه يتعامل معها بحيويته المتقدة وهمته العالية التي لمسناها أنا وزملائي العرب المشاركون في مؤتمر "الإسلام في عالم متعدد الثقافات" د.حسين الشافعي، د.نورهان الشيخ من مصر، د.عماد رزق من لبنان، حيث كان يعمل ومعه نائبته كخلية نحل في إدارته لنشاطات مركز "الحضارة" وفي قدرته على التواصل وتكوين شبكة علاقات واسعة داخلية وخارجية عززت من دور ومكانة المركز الذي تجاوز نشاطه حدود تتارسان إلى مناطق أخرى من روسيا وامتد إلى بعض البلدان العربية.
ومثلما أتحفنا الشيخ الطنطاوي بكتابه (تحفة الأذكياء بأخبار مملكة الروسيا)، فأن د.العماري يدوِّن انطباعاته وذكرياته كشاهد عيان عما يحدث من تحولات في تتارستان وفي روسيا عامة ويستكمل تجهيزها للنشر باللغتين العربية والروسية كما علمته منه. وقد حظي بالعديد من مظاهر الاحتفاء والتكريم والتقدير، إذ حصل وفقاً لاستفتاء سري تجريه الجامعة سنوياً بين الطلاب والمعلمين على لقب أفضل أستاذ جامعي لخمس سنوات متتالية. كما مُنح شهادات تقديرية من نائب رئيس الوزراء وزير التربية والتعليم في جمهورية تتارستان ومن وزير خارجية تتارستان ومن رئيس جامعة قازان، وميدالية الشرف العلمي من جامعة قازان الفيدرالية.
وتَرَدَّد صدى نجاحاته ليصل إلى مسامع وزارة التربية والتعليم العالي في موسكو التي تجاوبت مع صوت قازان الداعي لتكريمه على مستوى عالٍ، فمنحته في 3 ديسمبر 2017م (وسام الشرف- الأستاذ الفخري لروسيا الإتحادية"، قلَّدهُ إيَّاه نائبُ رئيسِ جامعة قازان الفيدرالية للشؤون الدولية الدكتور لينار لطيبوف نيابة عن وزير التعليم العالي والبحث العلمي في روسيا الإتحادية، وأصبح بذلك أول عربي يحمل هذا الوسام الرفيع، وعند تقليده الوسام وصفه رئيس جامعة قازان إلشاد غفوروف بـ(المجاهد الحقيقي). وقال في كلمته بمناسبة التكريم:" لمن يريد أن يعرف ما هو الجهاد ومن هو المجاهد فأمامكم الآن المجاهد وثمار جهاده المتمثلة بـ 18 عاماً من الجد والجهد والعمل المثمر بعيداً عن وطنه وأبنائه وأهله في نشر لغته وثقافته وحضارته وصانعاً للحوار الحضاري المتمدن، مقدماً العلم والمعرفة، وناشراً لأسس السلام والتقارب بين الشعوب".
إن هذا التكريم الرفيع شرف لنا جميعاً ولكل من يفخر بلغة الضاد وبالثقافة العربية والإسلامية التي كان د.العماري ويظل خير ممثل لها وساعٍ إلى نشرها في أرض التتار وبلاد الروس، مقتفيا أَثَر ابن فضلان الذي كان رسول الإسلام وحضارته قبل أكثر من ألف عام إلى هذه الأصقاع القَاصِيَة.
ولا شك أن من يقرأ هذه الإضاءة سيشعر بالحسرة ويتأسف أن يخسر الوطن مثل هذه الكفاءات العلمية المعطاءة التي فازت بها بلدان خارجية..لكن ما يخفف من الحسرة أنه يخدم لغة قومة وثقافتها وحضارتها، ويقوم بدور لم تقم به الملحقيات الثقافية العربية في السفارات..
فتحية تقدير لسفير لغة الضاد والثقافة العربية الذي يمثل أنموذجاً رائعاً وقدوةً حسنة في رحلة علم وعمل وعطاء، عنوانها العمل الدءوب والمثابر وثمرتها النجاح والتألق في إداء رسالته النبيلة لنشر اللغة العربية وثقافتها العربية الإسلامية في بلاد تتارستان وروسيا..
وفي مثل هذا الجهاد الحضاري فليتكاثر المجاهدون..وليتنافس المتنافسون!