قصور حِمْيَر المترفِّعة

مما لا شك فيه أن العمارة اليافعية الفريدة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ ولها امتدادها المرتبط بالحضارة الحِمْيَرية المزدهرة، خاصة إذا ما عرفنا أن يافع، هي قلب المنطقة المعروفة تاريخيا بـ(سرو حِمْيَر)، وهي منطقة جبلية توجد فيها مختلف أنواع الأحجار الصالحة للبناء وللنحت، ولهذا شيّد اليافعيون بفضل مهاراتهم الكثير من الدور والقصور والسدود وغيرها من المباني العامة، وما زالت آثارها باقية حتى يومنا هذا كشاهد على حضارة عريقة. وما زالوا حتى اليوم يبنون بيوتهم وقصورهم الحجرية المرتفعة السامقة، كما كان يفعل أسلافهم منذ غابر الزمن، وما كان بوسعهم ذلك لولا وجود المواد الصالحة للبناء، التي تستطيع البقاء ومقاومة الطبيعة أمدًا طويلاً. وقد ساعدت طبيعة المنطقة الجبلية في نحت الحجر وقطعه وصقله وتكييفه بالشكل المطلوب، لتشيد به الأبنية الضخمة المؤلفة من عدة طوابق والتي تقاوم بشموخها صروف الدهر، وتظل مصدر فخر واعتزاز كبيرين بحضارة تليدة، تتجدد على أرض الواقع، رغم مخاطر الحداثة التي بدأت تهدد ذلك النمط المعماري الأصيل .

وتتميز يافع بالحياة الحضرية المستقرة، فاليافعيون يبنون بيوتهم أو حصونهم المؤلفة من عدة أدوار حجرية ويزخرفونها بالنقوش الداخلية والخارجية، ولهم أعرافهم التي تمثل قوانين ملزمة، وعاداتهم وتقاليدهم تحدد نمط سلوكهم وحياتهم وعلاقتهم وتعلقهم بأرضهم التي نحتوا في بطون جبالها ومنحدراتها مدرجاتهم الزراعية وحفروا في صميمها الصخري السدود والمواجل لحفظ المياه، ولهم نمطهم المعماري المميز والفريد في الجزيرة العربية والعالم أجمع. 

وما يُدهش الزائر ليافع فرادة العمارة وروعة أسلوب البناء وارتفاع البنايات الحجرية الضخمة بما فيها من زخارف ونقوش وطراز معماري خاص لا مثيل له، وهذه الثروة المعمارية هي دون شك محصلة تراكمية لحضارة حِمْيَر العريقة التي ما زالت شواهدها باقية في الكثير من الخرائب التي تعود إلى قرون طويلة، وقد حافظ اليافعيون على تقاليدهم المعمارية حتى اليوم في طراز أبنيتهم الرائعة، وسبقوا الأمريكان في تشييد حصونهم وبناياتهم الضخمة والتي شيدت بطرق يدوية، حجر فوق حجر، وبلغت الذروة في روعة البناء . 

     ولا غرابة أن أطلق الباحثون العرب على هذه القصور المنيفة أوصافاً تليق بسموها وشموخها وقوتها وفرادتها، حيث وصفها الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف بـ"قصور حِمْيَر المترفعة"، أما المهندسة المتخصصة بالعمارة الاسلامية سلمى سمر الدملوجي فقد وصفتها بـ "ناطحات السحاب الحجرية الفريدة في العالم". ويصح فيهم وفي عمرانهم المتميز قول الشاعر:

هم الملوك إذا أرادوا ذكرها

 من بعدهم فَبألسِن البنيان

إن البناء أذا تعاظم شأنه

 أضحى يَدُلُّ على عظيم الشأن

ومن نافل القول أن دراسة هذا النمط المعماري الفريد والتعرف على مفردات البناء وفنونها في مراحلها المختلفة فيه فائدة كبيرة في تكوين فكرة عن البناء والعمران في الحضارة العربية الجنوبية، خاصة وإننا نجد في هذا البناء عناصر عديدة لها امتدادها الحي بتلك الحضارات التي ما تزال شواهدها باقية في المعمار القائم وفي خرائب وأطلال القرى القديمة. 

وللأسف الشديد أن الكثير من الأبنية القديمة جداً قد تهدمت بفعل عوامل الاهمال أو بسبب اعتداء الإنسان بجهله عليها وأخذ حجارتها لبناء منازل جديدة أو في تشييد جدران أحواش واسطبلات أو ملحقات منزلية أخرى. ويزداد الأمر خطورة حين يتم الاعتداء بوعي أو بدونه على الآثار القديمة، ففي يافع توجد عشرات المواقع أو الخِرَب الأثرية التي تدل على أن الحياة والحضارة موغلة فيها، وكذا المقابر القديمة التي تعود إلى ما قبل عصر الإسلام، ووجود الكثير من النقوش التي اندثر معظمها أو عُبث بها أو نُهبت على أيدي لصوص الآثار والنقوش، وبعض هذه النقوش تم سحب أحجارها واستخدمت في واجهات بيوت بعض المواطنين عند بنائها، بسبب الجهل وانعدام الوعي بقيمتها التاريخية، مما يحتم علينا الاهتمام بما تبقى منها.

-------

 المرجع: كتاب "فنون العمارة الحجرية في يافع". تأليف: د.علي صالح الخلاقي، دار جامعة عدن للطباعة والنشر 2015م.