زمن مقلوب

منصور صالح

انتشرت على مواقع الاجتماعي صورة لأكاديمي من الضالع حاصل على الدكتوراه من جمهورية الهند وهو يفترش قارعة الطريق في سوق المدينة ليبيع مادة الديزل في السوق السوداء.

صورة مماثلة كانت في وقت سابق قد حصدت اهتماماً أكبر لأكاديمي شاب من الحديدة ويعمل في جامعتها بعد نيله الدكتوراه من جمهورية مصر العربية، وبفعل الظروف الطاحنة اضطر للعمل عجاناً في أحد أفران المدينة.

فيما تناول ناشطون في صنعاء صورة لأكاديمي يحمل الدكتوراه أيضاً، ظهر فيها وهو يحمل الطوب في معمل لصناعة «البُلُك» لتغطية مصاريف أسرته.

مثل هذه الصور وغيرها الكثير الكثير مما لم توثقه الكاميرات أو الأقلام، تعكس بألم ما وصل إليه الحال في اليمن شمالاً وجنوباً بعد ثلاث سنوات من الحرب التي أذلت أعزة كُثر، ورفعت أذلة وأنذالا كُثر.  

ومثل هذه الصور بالتأكيد لمن يعي ويشعر، هي مأساة لأصحابها لا تقل عن مآسي القتل والموت التي حصدت وتحصد أرواح الآلاف من الأبرياء الذين دفعوا ثمن صراع الأقوياء على الاستئثار بالمال والسلطة ولو كلف ذلك أرواح ملايين البشر.

ومثل هذه الصور بشناعتها تعكس أيضاً ما وصل إليه العلم وأهله من إذلال ومهانة، لا تدل إلا على مدى جهل القائمين على شؤون الناس والبلاد في حكومتي صنعاء وعدن الهزيلتين، المشغولتين بترتيب أحوال المقربين من الجهلة والفاسدين.

لا شيء يبعث على الأمل طالما تمرغت الشهادات العليا في وحل الفقر والحاجة وتحول حملتها إلى عمالة بسيطة في الأفران ومعامل البلك والسوق السوداء.

ولا أمل في بلد يقوده ويدير شؤونه الأغبياء والأميون وممن نالوا الحكم والإدارة بفضل ما اصطلح على تسميته بركة صلاة الفجر ودعاء الوالدين، وإن كان بعضهم لا يصلي الفجر ولا الظهر ولا باقي الفروض.

في العالم المتحضر لا يعد سقوطاً وانهياراً في أي بلد إلا انهيار وسقوط العلم، فيما في اليمن أرض العجائب والغرائب والعاهات الآدمية لا يمكن أن تهدأ الأمور وتستقر إلا بخراب العلم والعلماء والمتعلمين، ليتسريح الجهلة والأميون ويقفز أدعياء النضال ليستأثروا بالسلطة والمال والثروات، وإلا أحرقوا الأرض ومن عليها.

كان الخيرون وما زالوا يشكون من تردي أوضاع التعليم، وخاصة في الجامعات التي تخرج أشباه متحررين من الأمية بعد أن غزا حملة الشهادات الوهمية هذا الصرح، فإذا بالأمور وبدلاً عن أن تتحسن صرنا نشهد حملة الشهادات وأساتذة الجامعات ينافسون الأميين على الوظائف الهامشية، التي هي وإن لم تكن عيباً لكنها ليست وظيفة من نالوا الشهادات العليا ليرتقوا بالجيل ويؤسسوا للمستقبل.

والمؤسف أنك حين ترى دكتوراً يعجن في فرن للروتي وآخر يكد في معمل بردين وثالث يبيع لتري البنزين بخمسمائة ريال في السوق السوداء فإنك ترى وتتعجب أيضا الكثيرين من عديمي التعليم وهم يتطاولون في البنيان، ويوقفون خطوط السير لتمر مواكبهم ومرافقيهم بصفتهم من رموز البلد ومسؤوليه ومن يحظون بكرم وقرارات التعيين والترقية من قيادته.

هو زمن مقلوب باختصار، ولا حول ولا قوة إلا بالله.


مقالات الكاتب